أمام شاشة التلفزيون، يجلس "عيد الرقيق" أحد أشهر فناني رسومات الحج في صعيد مصر، يتابع البث المباشر لأداء مناسك الحج داخل مدينة مكة المكرمة بالسعودية، وعلى وجهه علامات الحزن، حيث لم يتمكن هذا العام من أداء مهمته المفضلة في موسم الحج بالرسم على جدران بيوت الحجاج كما اعتاد منذ زمن بعيد.
يقول الرقيق، البالغ من العمر 71 عاما، في حديثه لموقع سكاي نيوز عربية: "أواظب على تلك العادة المُحببة منذ 56 عاما، لم أنقطع أبدا، لكن مع توقف المصريين عن السفر للحج هذا العام، لم أتلقَ طلبات لرسم المناسك على جدرانهم".
وكانت وزارة الحج السعودية، أعلنت في يونيو الماضي، في بيان رسمي، إقامة الحج بأعداد محدودة جدا لمختلف الجنسيات من الموجودين فقط داخل المملكة، حرصا على إقامة الشعيرة بشكل آمن صحيا، لضمان سلامة الإنسان وحمايته من مهددات جائحة "كورونا" المستجد.
علاقة "الرقيق" مع رسومات الحج بدأت في قريته "سلوا" بمحافظة أسوان، جنوبي مصر، وهو مايزال ابن الـ15 عاما، حينما وقف ليُقلد عمه "تقادم علي" خلال انهماكه في رسم جداريات الحج لأحد جيرانه، ليُقرر حينها عدم ترك "الريشة" بعد ذلك.
يوضح الرجل السبعيني:"تعلق قلبي بهذا الفن، برسم بيت الله الحرام والمناسك المختلفة خلال أداء فريضة الحج، وسعادة الحجاج عند استقبالهم بتلك الجداريات فور عودتهم من مكة المكرمة".
واشتهر "الرقيق" بكونه فنانا عفويا، حيث لم يُكمل تعليمه أو يدرس فنون الرسم في معاهد متخصصة، حيث يعتقد أن الله قد منحه موهبة خاصة تمكنه من نقش أي مشاهد على الجدران بمجرد رؤيتها لمرة واحدة، على حد قوله.
وذهب "الرقيق" إلى مكة المكرمة مرة واحدة لأداء العمرة في منتصف السبعينيات، ولم يتسن له أداء فريضة الحج، لكنه يتابع التجديدات التي تدور في الحرم المكي لوضعها في رسوماتها الجديدة.
وقبل موسم الحج بفترة كافية، يتلقى طلبات من وقع عليهم الاختيار للذهاب إلى الحرم المكي لأداء فريضة الحج، ليتفق معهم على مواعيد تزيين واجهة بيوتهم خلال وجودهم في السعودية.
ويُشير "الرقيق" إلى عدم اكتراثه بالاتفاق على مقابل مادي قبل العمل قائلا: "لا أطلب أجرًا من الحجاج، ليدفع كل شخص وفق ظروفه المادية، وأحيانا أهدي لهم رسوماتي مجانا في حالة تعثرهم ماديا".
وبعد مغادرة الحجاج لبيوتهم متوجهين إلى السعودية، ينطلق عم عيد إليها، حيث يقف أمام الجدران بجلبابه البسيط وملامحه الوديعة، حاملا أدواته التي يستخدمها، ليبدأ نقش رسوماته.
ويقول عنها: "أرسم منذ زمن بفرشاة أصنعها من جذوع النخيل، وبعض الألوان التي أقوم بخلطها بنفسي".
في أغلب الأوقات يختار "الرقيق" تزيين الجدران بصور من مناسك الحج، سواء الطواف أو الصعود إلى جبل عرفات أو رمي الجمرات، لكن أحيانا يُطلب منه رسومات أخرى في غير مواسم الحج، مثل التحطيب- اللعب بالعصا- أو عازف المزمار، وفق حديثه لموقع سكاي نيوز عربية.
لم يقتصر عمل "الرقيق" في قريته فقط، فقد انتشرت رسوماته على جدران البيوت في أنحاء أسوان ثم امتدت لعدد من محافظات الصعيد من بينها الأقصر وقنا، يُضيف قائلًا: "بعض الحجاج بالقاهرة يرغبون في أن أسافر إليهم، لكن ضيق الوقت خلال موسم الحج يمنعني عن ذلك".
شهرة "الرقيق" وصلت إلى المصورة الأميركية آن باركر التي جاءت إلى مصر في أواخر الثمانينيات، لتوثيق فن رسومات الحج بعد أن لفت انتباهها، إذ قالت عنه في مقدمة كتابها:" لقد اقتنعت بأنه فن تقليدي شعبي له تاريخ استثنائي".
والتقت "باركر" بالفنان الشعبي رفقة زميلها "أفون نيل" للتسجيل معه عن عشقه لرسومات الحج، وتصوير أبرز جداريته في مختلف بيوت الحجاج.
ويُشير "الرقيق"إلى تلك الزيارة قائلًا:"أمضوا معي عدة أيام، حضروا تزيين جدران الحجاج بالرسومات، وحصلت بعد سنوات على كتاب يحمل بعض أعمالي".
وداخل كتاب "رسومات الحج" قِيل عن الرجل السبعيني :"أعماله تعكس رؤية واقعية من حياة قرى صعيد مصر واحتفالاتهم التقليدية وأيضًا من رسوماته المتقنة وما يبديه من مثابرة واهتمام بالتفاصيل".
يستعيد "الرقيق" تلك الأيام المجيدة، بينما يجلس داخل بيته، ينظر بين الحين والآخر إلى أدوات الرسم منتظرًا انتهاء أزمة تفشي فيروس "كورونا" المستجد، مضيفًا:" أتمنى العودة في العام المقبل إلى عملي، أشعر براحة وسعادة لا مثيل لهما عند تزيين الجدران برسومات الحج".