تعرف بمصر الصغرى لأن جغرافيتها تشبه إلى حد كبير جغرافية مصر، فبحر يوسف بالنسبة لها كنهر النيل بالنسبة لمصر، وبحيرة قارون التي تحدها شمالا تماثل البحر الأبيض بالنسبة لمصر.

إنها محافظة الفيوم أكبر واحة طبيعية في مصر، وأول محافظة في محافظات إقليم شمال الصعيد، الذي يضم محافظات الفيوم وبني سويف والمنيا.

كثيرة هي المعالم الأثرية في الفيوم، ومتنوعة هي المحميات الطبيعية بها، ففيها محمية وادي الحيتان المسجلة ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، إضافة لمحمية بحيرة قارون ومحمية وادي الريان.

غير أن وجهتنا إلى الفيوم لم تكن واحدة من تلك المواقع، فهناك وعلى بعد نحو مئة كيلومتر من القاهرة توجد ساحة مفتوحة للإبداع تلخص جانبا مهما من جوانب الشخصية المصرية، إنها قرية تونس.

 وقرية تونس ليست كغيرها من القري، فحين يتجول المرء في شوارع القرية لا تقع عيناه إلا على كل ما هو جميل، فبيوت القرية البسيطة  تزين جدرانها رسومات من بيئة المكان.. رسومات تكتسب معان جديدة حين تتحول لرسومات جميلة على أواني الفخار.

عشق سويسري

وللفخار في قرية تونس قصة طويلة، ففي مطلع الثمانينيات وضعت اللبنات الأولى لمدرسة الفخار على يد سيدة سويسرية عاشقة  لمصر تدعى إيفيلين.

وإن كانت قصة إيفيلين مع قرية تونس بدأت قبل هذا التاريخ بنحو 15 سنة، حين كانت تلك القرية لا تعدو كونها مجموعة من البيوت الصغيرة المطلة على بحيرة قارون.

أحبت إيفيلين صناعة الخزف والفخار كما أحبت قرية تونس وفلاحيها، وحين شاهدت أطفال الفلاحين يلعبون "بطين الغيط" ويصنعون منه تماثيل صغيرة، أدركت أنه من الممكن أن يتحول هؤلاء لفنانين حقيقيين.

ومن هنا جاءتها فكرة تدريب الفتيات والشباب على صناعة الفخار، لتكتب شهادة ميلاد تلك المدرسة التي تخرج فيها المئات، أنشأ العشرات منهم ورشهم الخاصة التي باتت تزين شوارع وحواري القرية الصغيرة بفنون الفخار الجذابة.

استقبلنا محمود الشريف رئيس جمعية صناعي الفخار بالقرية، وهو من الجيل الأول الذي تدرب في مدرسة الفخار، وتوجهنا معه إلى المدرسة التي وصلنا إليها  بالتزامن مع وصول عدد من السائحين المصريين الذين سمعوا عن المدرسة، فقرروا زيارتها وشراء قطع من الفخار كتذكار يحمل توقيع فناني قرية تونس المهرة.

تليين الفخار

يحدثنا محمد الجمال، وهو يدير برجليه دولاب الفخار، بينما تعزف أنامله برفق على قطعة الطين الطري أمامه عن بداية علاقته بالمدرسة فيقول: "كغيري من المئات من شباب القرية بدأت علاقتي بالمدرسة في سنوات الصبا، وتعلمت على يدي من سبقوني في المدرسة وعلي يد السيدة إيفيلين بنفسها".

ويواصل الجمال حديثه دون أن يتوقف عن العمل قائلا: "هذه أولى مراحل تصنيع الفخار، حيث يتم تشكيل قطعة الطين الطري حسب رغبة الجالس على الدولاب ويتم تقطيعها بواسطة سلط معدني رقيق، بعد ذلك نتركها لتجف لتبدأ المرحلة الثانية".

وفي المرحلة الثانية يأتي دور مريم، وهي شابة من بنات قرية تونس تعمل بالمدرسة منذ سنوات، وهناء التي بدأت علاقتها بالمدرسة وهي في التاسعة من عمرها وهي الآن زوجة وأم لطفل كانوا يلهون طيلة الوقت حولنا، وزوج هناء يعمل كذلك في ورش المدرسة.

ترطب مريم وهناء  قطعة الفخار وتبطنانها بماء الطين من الداخل والخارج، ثم تتركانها لتجف مرة أخرى قبل أن تنتقل قطعة الفخار لمرحلة التبييض تمهيدا للرسم أو الحفر عليها، تمهيدا لانتقالها إلى الفرن حيث يبدأ كريم السيد المسئول عن تلك المرحلة عمله.

وبعد حرق الفخار داخل الفرن ذي المواصفات الخاصة، تخرج كقطعة فنية جاهزة للعرض داخل المعرض الخاص بالمدرسة، حيث تتلقفها أيادي السائحين من المصريين والأجانب.

وحين أوشكت جولتنا داخل المدرسة على الانتهاء، فاجأتنا رحلة مدرسية لبنات في المرحلة الثانوية ليمتلئ فناء المدرسة بالفتيات ساعة خروج السيدة إيفيلن للقائنا.

إبداع بصخب

صخب الفتيات لا يعجب إيفيلين وهي المجبولة على العيش في هدوء تشيح بوجهها عنهن وتنهر من تصادف مروره أمامها بسبب "هذه الفوضى" تتحدث لنا إيفيلين وهي حافية القدمين، حيث تحب أن تلامس قدماها الأرض دائما.

وبلكنة "خواجاتي" تردد: "مفيش نظام، مشكلة كبيرة عدم وجود نظام". ثم تعود لتهدأ نبرتها: "بس يمكن عدم وجود نظام ده شيء كويس يخليهم يبدعوا أكثر... مش عارفة".

رغم كبر سنها الذي تجاوز الثمانين تبدو إيفيلين منطلقة بروح طفولية مرحة وتسألني: "أنت عاوز إيه مني"؟ فأرد في هدوء: "أود أن أجري معك حوارا عن المدرسة والفخار وقرية تونس". فترد: "وهل هذا شيء مفيد؟ أنا فعلت ما أحب وعشت في المكان الذي أحب ومع الناس الذين أحبهم فهم أهلي وهذا يكفي وقصة المدرسة أنت تعرفها جيدا فلا داعي للحوار"، تختتم كلماتها وهي تبتسم ابتسامة طفولية بينما تنظر إلى زميلي المصور وتكمل: "لكن لا بأس فلنبدأ الحوار بس مش كتير أنا ست كبيرة وبتعب بسرعة".

يحب أهل القرية السيدة إيفيلن وينادونها بأم أنجيلينو، وهي أيضا تعرفهم جيدا وتحبهم وعلى يديها تخرج المئات منهم، ومازالوا يترددون على المدرسة غم امتلاكهم ورشا خاصة داخل القرية.

في القرية عدد من الفنادق والاستراحات البسيطة وعدد من الفيلات والقصور والمراسم الخاصة بعدد من الفنانين، أبرزهم الفنان التشكيلي محمد عبلة الذي لم نتمكن من لقائه أثناء زيارتنا للقرية حيث كان خارج مصر.

ولا تتوقف مظاهر الإبداع داخل قرية تونس على صناعة الفخار ومراسم الفنانين التشكيلين، فهناك سياحة السفاري وركوب الخيل ومتابعة الطيور المهاجرة من شتى أنحاء العالم، هذا إلى جانب بحيرة قارون التي تطل عليها القرية كشرفة تمتد لنحو خمسة كيلومترات.