كيف يمكن للجبنة أن تتحول إلى مقياس للتطور البشري؟ وكيف يمكن أن تكون قوة القمل مؤشراً على قوة ذلك التطور؟ وكيف يمكن بناء محمية طبيعية للأنواع البشرية "السعيدة" وينظر إليهم الأميركي من أعلى عجلة فيررس العملاقة؟.

أسئلة تبدو غرائبية وربما مجنونة، للوهلة الأولى، ولكننا نكتشف، كلما أوغلنا في رواية تيسير خلف الجديدة "عصافير داروين" أنها أسئلة جدية كان يطرحها بروفيسور في جامعة هارفارد متخصص بالانثروبولوجيا، يخطط لبناء قسم متميز للترفيه على هامش معرض شيكاغو العالمي عام 1893.

حين تصل دعوة الرئيس الأميركي إلى السلطان العثماني للمشاركة في المعرض، يقع في حيرة من أمره، فبماذا تشارك السلطنة في سباق الأمم؟ لا صناعة تفاخر بها، ولا مخترعات أو منجزات علمية.. لا شيء سوى خيول عربية أصيلة وفرسان من البدو، وممثلين، وتجار تحف شرقية من ولاية سوريا.

يفكر راجي صيقلي، وهو وجيه من وجهاء مدينة عكا الفلسطينية، بانشاء ميدان للخيول العربية يمثل فيها الفرسان والممثلون والممثلات حرب داحس والغبراء الشهيرة بين قبيلتي عبس وذبيان، فيعجب السلطان بالفكرة ويمنح صاحبها الأوسمة والتكريم وامتياز إقامة هذا الميدان، فيجتمع نخبة من البيروتيين لتمويل هذا المشروع الذي يكلف أكثر من 120 ألف دولار أميركي، وهو مبلغ ضخم في معايير القرن التاسع عشر، فيجمع راجي 45 حصاناً وفرساً أصيلاً وفرساناً من البدو وغير البدو، وممثلين وممثلات، ويسافر بهم إلى العالم الجديد على متن سفينة مستأجرة تدعى سنثيانا.

صراعات معقدة

في خضم هذا المهرجان الصاخب بالألوان والرقصات والأغاني، تتكشف صراعات معقدة بين أصحاب رؤوس الأموال المساهمين، تتعدى الخلافات بشأن طريقة الإدارة لتصل إلى الضغائن الطائفية بين الموارنة والروم، بين البدو وأهل الريف والمدينة، بين الأثرياء وبين الفقراء..

 يلعب المال في هذه الرواية دور المحرك للأحداث، فالبروفيسور الحالم بتطبيق نظرية داروين على البشر، يصطدم بأصحاب رؤوس المال الذين الذين يضعون يدهم على قسم الترفيه، ويخضعونه لمعاييرهم التسويقية، فيدخل في جدال عقيم مع ممثلهم المدعو سول بلوم الذي يحمل للبروفيسور سلسلة مالية تختلف عن سلسلته التطورية، ولكنه يجد تقاطعات بين السلسلتين بطريقة لا تخلو من كوميديا سوداء تتحول فيها الداروينية الاجتماعية إلى مادة للتسويق وجني الملايين.

تركز الرواية على شخصية مربي خيول بدوي يدعى حسن الرماح، يقنعه راجي باصطحاب جواده الدبران وفرسه نجمة للانضمام إلى الفريق. يبدو حسن في مطاردته لسلالات الخيول وملاحقته لمشجرات أنسابها، وكأنه يعمل بطريقة مناقضة لفكرة داروين، فهو يؤمن بانتخاب الصفات النبيلة للخيول، والبحث عنها في عمق البوادي، لتوليد حصان كامل الصفات، ولكن حسن الذي يقع في مواقف غريبة، نتيجة سوء فهم لطريقة تحديقه في الدوائر التي تنبثق من مؤخرة السفينة، سرعان ما يصاب بالاكتئاب، بعد أن يحترق جواده الدبران في حادث مفتعل، وحين تسرق مشجرات أنساب الخيول التي كان يحملها، ولا نعرف من سرقها ولماذا؟ لنكتشف أن هذه المشجرات هي التي تمنح الخيول قيمتها في المزاد العلني الذي بيعت فيه، لسداد الديون المتراكمة.

ولكن من أين أتت الديون؟ لقد أدى التطاحن بين ممولي المشروع إلى أن إعلان الحرب المفتوحة القذرة بينهم، فلجأوا إلى شركات المحاماة الأميركية، ووقعوا في براثن المرابين والمغامرين والمقامرين، وسلموا أمرهم لهم، فتحولوا إلى مجموعة من الفاشلين الذين لايريدون سوى العودة إلى ديارهم متخلين عن الخيول والأزياء وأحلام الثروة التي تبددت في ردهات المحاكم وأقسام الشرطة، والدسائس والمؤامرات.

محام غامض

يقع "المرمح الحميدي" كما هو اسمه، بين يدي محام غامض غريب الأطوار يدعى جيمس شومان يستطيع عن طريق القوانين الأميركية أن يكسب المال من أي شيء، ونرى هذا المحامي كرجل ظل يحرك خيوط اللعبة من الخلف، لنصل في نهاية الرواية إلى استيلاء المرابين على الخيول لبيعها في مزاد علني، بعد ستة شهور من استنزاف الأموال جناها الفريق من العروض في شيكاغو وكندا وكنساس.

يقول راجي لهذا المحامي شومان في نهايات الرواية: حسنا أنك لم تعرضنا للبيع في المزاد العلني، فيرد المحامي بأنه لولا إلغاء قانون العبودية لحصل ذلك!

تنتهي الرواية نهاية مأساوية، فبعد تسفير فريق "المرمح الحميدي" الذي يزيد عددهم على 120 شخصاً، على دفعات، يرفض حسن الرماح السفر، ويهرب ملتحقا بالعربة التي تحمل فرسه نجمة، وحين يراه موظفو المحكمة يطردونه، فيجلس منتظراً أمام باب المحكمة، لا ندري كم من الوقت أمضى، ولكننا نعرف أنه تعرف إلى متشردين كانوا يطعمونه معهم خبزاً وحساءاً ساخناً، إلى أن تضرب عاصفة ثلجية مدينة شيكاغو فيتجمد المتشردون ومعهم حسن الرماح، فيما يضع البروفيسور كتابه حول "الأنواع البشرية" في المطبعة، قبل أن يمضي بالعصفور الوحيد المتبقي من عصافير داروين الخمسة إلى متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك حيث عٌين مديرا له.

"عصافير داروين" رواية مختلفة في سياق السرد العربي، وتشكل إضافة لتجربة تيسير خلف الروائية التي تتكئ على التاريخ في سعيها لبناء عالم روائي مختلف، ولعل كثافة الأحداث التي تنطوي عليها؛ هي الجانب الوحيد الذي يؤخذ عليها، فهي تحتاج في قراءتها إلى تركيز شديد من القارئ، وإلى محطات استراحه من اللهاث خلف الأحداث المتسارعة، والتي تبدو وكأنها تعدو عدو حصان عربي أصيل.