فريق برنامج كوكبنا قام بزيارة البقعة الأكثر تلوثا في تونس والتي تتعرض لمخاطر بيئية بشكل يومي بسبب ما يسميه ساكنو المنطقة "الشوكولاتة السامة".
أكثرُ من أربعة عقودٍ مرت على النكبة البيئية التي تعيشها مدينة قابس التونسية. المدينة التي تدفع ثمن وجود المجمع الكيميائي التونسي بين جنباتها. لا يحلمُ سكان المدينة بغير حياةٍ طبيعية، لا يتعرضون فيها لخطر الموت الذي يتربّص بهم في كل خطوة، مع استمرار التلوث الناجم عن وحدات تكرير الفوسفات بالمجمع الذي تم إنشاؤه عام 1971 لإنتاج حمض الفوسفوريك الذي يُستخدم في صناعة الأسمدة.
رائحة مميزة
للمُدن رائحةٌ مميزة، كما يصف الشاعر محمود درويش "كل مدينة لا تُعرفُ من رائحتها لا يُعوَّل على ذكراها" ولمدينة قابس الواقعة جنوب شرقيّ البلاد رائحة الموت والأبخرة الكيماوية المنبعثة من المداخن. لا تهدأ الأصوات المطالبة بوقف التلوث هُنا. تتقاطعُ حكايات الأهالي الذين يعيشون حياةً إضطرارية، مع قائمةٍ طويلة من الأمراض تفتكُ بهم حسبما يؤكدون.
ساهم في زيادة الأمراض التي يعاني منها السكان تضاعف معدلات التلوث بالمنطقة، من الأورام السرطانية التي يتسبب بها التعرض المستمر للمعادن الثقيلة، واضطرابات الجهاز التنفسي والأمراض الجلدية وهشاشة العظام، بينما تبقى الإحصاءات الرسمية غائبة عن حصر معدلات انتشار هذه الأمراض.
هل بددت أحلام قاطني قابس؟
من واحةٍ سياحيةٍ وزراعية بامتياز إلى شواطئ رمادية مهجورة، هكذا بدت واحة قابس التي تم ترشيحها قبل سنوات لقائمة التراث الطبيعي العالمي بمنظمة اليونيسكو، لثراء البيئات الطبيعية والإيكولوجية التي تحويها. فالشواطئ التي كانت قبلةً للمصطافين والسياح، أصبحت تتخذ موقعاً متجدداً في تحذيرات المسؤولين من المناطق الخطرة للنزول والسباحة. والتي كان آخرها تحذيرات وزارة الصحة التونسية خلال موسم الصيف الماضي، وذلك وفق نتائج أنشطة المراقبة الصحية لنوعية المياه المنجزة في الفترة المنقضية من عام 2023.
على شاطئ السلام المُسممّ بالمخلفات الصناعية تتجلّى المأساة. "مادة الفيسفوجيبس" هي كلمةُ السر، حيث تُلقي الوحدات الصناعية للمجمع نحو 13 طنًا من "جبس الفوسفات" في البحر يومياً دون معالجة حسبما تُشير التقديرات، وهي المادة التي تشكل خطورة على البيئة وصحة السكان. يرصدُ الصيادون في قابس حجم التدهور الذي طرأ على التنوع البيولوجي للبيئة البحرية، والذي أفقدهم سبل العيش ومصادر الرزق التي يعتمدون عليها، مع تراجع المخزون السمكي بشكلٍ كبير ونفوق الكائنات البحرية في الخليج الملوّث.
تمتدُ الأضرار البيئية والاقتصادية الناجمة عن التلوث إلى الإنتاج الزراعي الذي تراجع بشكلٍ فادح، مع ما تُعانيه الواحة من شُحٍ كبير في الموارد المائية التي يستنزفها المجمع الكيميائي، ما تسبب في عطش وجفاف غابات النخيل وأشجار الرمّان التي كانت تملأُ الواحة قبل سنوات. ووفقاً لتقريرٍ للبنك الدولي تتعرض الواحات التونسية التقليدية وعلى رأسها واحة قابس لخطر التدهور البيئي، الذي أسهم في زيادة نسب البطالة رغم كونها واحدة من أهم مواطن التنوع البيولوجي الثري في البلاد.
أكثر من 50 عاماً بانتظار الحلول
لا تنقطع الجهود التي يبذلها المجتمع المحلي ونشطاء العمل البيئي بالولاية من أجل كبح جماح الكارثة البيئية. فالانتهاكات التي تعصف بالولاية تضربُ بالدستور التونسي عرض الحائط، حيث تُشدّد مواد الدستور الذي تم إقراره عام 2014 على الحقوق البيئية للمواطنين، مع التأكيد على ضمان الدولة الحق في بيئةٍ سليمةٍ ومتوازنة، وتوفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي.
بينما تؤكد تقاريرٌ ودراسات عدة خطورة سكب مادة الفيسفوجيبس في البحار والمجاري المائية، من بينها تقارير وكالة حماية البيئة الأميركية التي تُشير إلى احتواء مادة الفيسفوجيبس على عدد من العناصر الثقيلة، والمواد المشعّة من بينها عناصر اليورانيوم والراديوم. فالتخلص من هذه النفايات ومعالجتها يتطلب اجراءاتٍ آمنة تُراعي معايير السلامة الحيوية.
يتعلّق الأهالي بأيّ بصيص أملٍ يلوح في الأفق لانفراج الأزمة، ولكن سرعان ما يتبدد هذا الأمل مع المماطلة الحكومية التي لا تُسفر إلا عن المزيد من التسويف. مشروعاتٌ عديدة تم الإعلان عنها لإيجاد حلولٍ جذرية للقضاء على التلوث مازالت تقبع في الأدراج. يُبرر المسؤولون في قابس تأخّر هذه المشروعات بارتفاع التكلفة المادية وقِدم التكنولوجيات المستخدمة في وحدات المجمع الكيميائي، والتي لا تفلحُ معها التقنيات الحديثة للمعالجة الآمنة للنفايات وتنقية الأبخرة الكيميائية للمداخن.