تمثل قدرتنا على الشعور بالحرارة والبرودة واللمس، ضرورة للبقاء، وتدعم تفاعلنا مع محيطنا، لذا نستطيع أن نفهم التقدير الواسع الذي منحته جائزة نوبل للطب هذا العام لاكتشافات العالمين الأميركيين ديفيد جوليوس، أرديرم باتابوتيان، على صعيد مستقبلات الحرارة واللمس.
وبرغم أننا نتعامل في حياتنا اليومية مع هذه الأحاسيس باعتبارها أمر مسلم به، ولكن كيف تبدأ النبضات العصبية بحيث يمكن إدراك درجة الحرارة والضغط؟ أجاب عن هذا السؤال الكبير الفائزان بجائزة نوبل لهذا العام، وهو ما نحاول تبسيطه خلال هذه السطور.
يمكن تلخيص مشوار كل عالم من الاثنين نحو جائزة نوبل في محور أساسي؛ حيث استخدم ديفيد جوليوس الكابسيسين، وهو مركب لاذع من الفلفل الحار الذي يسبب الإحساس بالحرقان، لتحديد مُستشعر في النهايات العصبية للجلد يستجيب للحرارة.
في حين استخدم أرديرم باتابوتيان الخلايا الحساسة للضغط لاكتشاف فئة جديدة من المستشعرات التي تستجيب للمنبهات الميكانيكية في الجلد والأعضاء الداخلية.
أطلقت هذه الاكتشافات المتقدمة أنشطة بحثية مكثفة أدت إلى زيادة سريعة في وتيرة فهمنا لكيفية استشعار نظامنا العصبي للحرارة والبرودة والمحفزات الميكانيكية.
ومن هنا نستطيع أن نقول إن الفائزين بالجائزة استطاعا بنجاح فائق تحديد الروابط الحاسمة المفقودة في فهمنا للتفاعل المعقد بين حواسنا والبيئة.
كيف كان تشكَّل فهمنا للإحساس بالعالم؟
في القرن السابع عشر، تصور الفيلسوف رينيه ديكارت وجود خيوط تربط أجزاء مختلفة من الجلد بالدماغ، بهذه الطريقة، فإن ملامسة القدم للهب المكشوف ترسل إشارة ميكانيكية إلى الدماغ.
بيّنت الاكتشافات اللاحقة وجود خلايا عصبية حسية متخصصة تسجل التغييرات في بيئتنا، حين حصل كل من جوزيف إرلانغر وهربرت جاسر على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب عام 1944 لاكتشافهما أنواعًا مختلفة من الألياف العصبية الحسية التي تتفاعل مع محفزات مميزة، مثل: الاستجابات للمس المؤلم وغير المؤلم.
منذ ذلك الحين، ثبت أن الخلايا العصبية متخصصة للغاية في الكشف عن أنواع مختلفة من المحفزات وتحويلها، مما يسمح بإدراك دقيق لمحيطنا؛ كقدرتنا على الشعور بالاختلافات في نسيج الأسطح من خلال أطراف أصابعنا، أو قدرتنا على تمييز كل من الدفء الممتع والحرارة المؤلمة.
قبل اكتشافات ديفيد جوليوس وأردم باتابوتيان، كان فهمنا لكيفية استشعار الجهاز العصبي لبيئتنا وتفسيره لا يزال يتضمن سؤال أساسي لم تتم الإجابة عنه: كيف يتم تحويل درجة الحرارة والمحفزات الميكانيكية إلى نبضات كهربائية في الجهاز العصبي؟
كيف نشعر بالحراراة؟
في نهاية التسعينيات، رأى ديفيد جوليوس من جامعة كاليفورنيا، إمكانية تحقيق تقدم كبير من خلال تحليل كيف يتسبب مركب الكابسيسين الكيميائي في الإحساس بالحرقان الذي نشعر به عندما نتعامل مع الفلفل الحار.
كان من المعروف بالفعل أن الكابسيسين ينشط الخلايا العصبية مما يسبب الإحساس بالألم، ولكن كيفية ممارسة هذه المادة الكيميائية لهذه الوظيفة في الواقع كانت لغزًا لم يتم كشفه.
بعد بحث شاق، تم تحديد جين واحد قادر على جعل الخلايا حساسة للكابسيسين، كشفت تجارب أخرى أن الجين الذي تم تحديده قام بتشفير بروتين قناة أيونية جديدة وأن مستقبل الكابسيسين المكتشف حديثًا تم تسميته لاحقًا TRPV1.
عندما حقق جوليوس في قدرة البروتين على الاستجابة للحرارة، أدرك أنه اكتشف مستقبل استشعار للحرارة يتم تنشيطه في درجات حرارة تسبب الشعور بالألم.
أُعتبر اكتشاف جين TRPV1 إنجازًا كبيرًا أدى إلى تفكيك مستقبلات إضافية لاستشعار درجة الحرارة، بشكل مستقل عن بعضهما البعض؛ حيث اُستخدم العلماء مادة المنثول الكيميائية لتحديد TRPM8، وهو مستقبل تم تنشيطه بواسطة البرد.
كان اكتشاف جوليوس لـ TRPV1 بمثابة الاختراق الذي سمح لنا بفهم كيف يمكن للاختلافات في درجات الحرارة أن تحفز الإشارات الكهربائية في الجهاز العصبي.
حواس اللمس والضغط
في الوقت الذي كانت آليات الإحساس بدرجة الحرارة تتكشف، ظل من غير الواضح كيف يمكن تحويل المحفزات الميكانيكية إلى حواس اللمس والضغط.
وجد الباحثون سابقًا مستشعرات ميكانيكية في البكتيريا، لكن الآليات الكامنة وراء اللمس في الفقاريات ظلت مجهولة.
أراد أردم باتابوتيان، الذي يعمل في معهد سكريبس للأبحاث، تحديد المستقبلات المراوغة التي يتم تنشيطها بواسطة المحفزات الميكانيكية.
بعد بحثٍ مضنٍ، اكتشف باتابوتيان قناة أيونية جديدة وغير معروفة تمامًا وحساسة للميكانيكا وأعطيت اسم Piezo1، ومن خلال تشابهه مع Piezo1، تم اكتشاف جين ثانٍ واسمه Piezo2.
تم العثور على الخلايا العصبية الحسية للتعبير عن مستويات عالية من Piezo2 وأثبتت دراسات أخرى أن Piezo1 وPiezo2 عبارة عن قنوات أيونية يتم تنشيطها مباشرة عن طريق الضغط على أغشية الخلايا.
أدى الاختراق الذي حققه باتابوتيان إلى سلسلة من الأبحاث من مجموعته ومن مجموعات أخرى، مما يدل على أن قناة Piezo2 ion ضرورية لحاسة اللمس، كما ثبت أن Piezo2 يلعب دورًا رئيسيًا في الاستشعار المهم للغاية لموضع الجسم والحركة، والمعروف باسم استقبال الحس العميق.
بعد مزيد من الأبحاث، ثبت أن قناتي Piezo1 و Piezo2 تنظمان عمليات فسيولوجية مهمة إضافية بما في ذلك ضغط الدم والتنفس والتحكم في المثانة البولية.
وتقول الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم إن الأبحاث المكثفة المستمرة التي نشأت عن اكتشافات جائزة نوبل لهذا العام، تدفع نحو استثمار هذه المعرفة لتطوير علاجات لمجموعة واسعة من الحالات المرضية، بما في ذلك الألم المزمن.
من هما صاحبا نوبل للطب 2021؟
بقي أن نلقي نظرة على حياة العالمين الفائزين بنوبل للطب هذا العام وسيرتهما العملية؛ ديفيد جوليوس، ولد عام 1955 في نيويورك بالولايات المتحدة ، حصل على الدكتوراه في عام 1984 من جامعة كاليفورنيا، بيركلي وكان زميل ما بعد الدكتوراه في جامعة كولومبيا في نيويورك، وعُيّن ديفيد جوليوس في جامعة كاليفورنيا، في عام 1989؛حيث يعمل الآن أستاذًا.
أمّا أرديرم باتابوتيان، فهو أميركي ينحدر من أصل لبناني أرمني، ولد عام 1967 في بيروت، وعاش شبابه في لبنان، انتقل من بيروت التي مزقتها الحرب الأهلية إلى لوس أنجلوس بالولايات المتحدة، وحصل على الدكتوراه في عام 1996 من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.
كان باتابوتيان زميلًا لما بعد الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا منذ عام 2000، وهو عالم في معهد سكريبس للأبحاث، كاليفورنيا حيث يعمل الآن أستاذًا. كما أنه محقق في معهد هوارد هيوز الطبي منذ عام 2014.
يذكر أن جائزة نوبل التي يزيد عمرها عن قرن من الزمان تمنحها الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، وتبلغ قيمتها عشرة ملايين كرونة سويدية (1.15 مليون دولار).
وتأسست جوائز نوبل للإنجازات في العلوم والأدب والسلام ويتم تمويلها بموجب وصية مخترع الديناميت رجل الأعمال السويدي ألفريد نوبل. وهي تمنح للفائزين منذ 1901، أما جائزة نوبل في الاقتصاد فبدأ منحها في 1969.
وكانت جائزة نوبل للطب في العام الماضي، كانت من نصيب الأميركيين هارفي ألترو تشارلز رايس والبريطاني مايكل هوتون عن إنجازاتهم في الكشف عن فيروس الالتهاب الكبدي (سي) الذي يتسبب في تليف الكبد وإصابته بالسرطان.