لساعات ينتظر صلاح الضو أمام أحد مراكز توزيع المعونات الغذائية في مدينة كسلا شرقي السودان، بعد أن فر من ولاية الجزيرة تاركا مزرعته البالغة مساحتها 10 أفدنة، التي كان إنتاجها يكفي قوت عائلته السنوي ويوفر مبالغ مقدرة تغطي مصروفاته النقدية.

وتشير تقديرات إلى خروج نحو 3 ملايين فدان من الأراضي الزراعية عن الإنتاج، ودخول أكثر من 800 ألف مزارع في دائرة العوز الغذائي، بسبب الحرب المستمرة في السودان منذ أبريل 2023 التي تهدد نحو 25 مليون من سكان البلاد بمجاعة طاحنة.

ويقول الضو لموقع "سكاي نيوز عربية": "كنت قبل الحرب أشعر بالفخر كوني جزءا من عملية الإنتاج الزراعي في منطقة الجزيرة، التي كانت تغطي معظم أسواق البلاد بحاجتها من الحبوب والخضراوات والمنتجات الزراعية الأخرى، لكني الآن أصبحت أستجدي القليل من المساعدات لإطعام أهل بيتي الذين أجبرتهم ظروف الحرب على الفرار من أرضهم”.

انهيار شامل

مع اتساع رقعة الحرب وشمولها نحو 70 بالمئة من مناطق البلاد، اضطر أكثر من 12 مليون سوداني للفرار والعيش في المدن والمناطق القليلة التي لا تزال آمنة نسبيا، مما تسبب في تعطيل عجلة الإنتاج الزراعي والصناعي في معظم أنحاء السودان.

لكن المعضلة الأكبر تكمن في تركز القتال حاليا بالمناطق التي تشكل القلب النابض للإنتاج الزراعي، خصوصا مناطق الجزيرة وسنار ودارفور وأجزاء كبيرة من إقليم كردفان، مما زاد من معاناة السكان الذين يعتمد أكثر من 65 بالمئة منهم على الزراعة والرعي بشكل كامل.

وزادت تداعيات الحرب من مشاكل القطاع، الذي شهد خلال السنوات الماضية تدميرا وفسادا وإهمالا ممنهجا طال بنيات المشاريع الكبرى، بما في ذلك شبكات الري التي فقدت 85 بالمئة من قدراتها، إضافة إلى الطرق والمنشآت المدنية والهندسية.

السودان بين الحوار أوالانهيار

وأثرت الحرب بشكل كبير على مشروع الجزيرة الذي كان يعتبر حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، أحد الركائز الأساسية لاقتصاد السودان وأمنه الغذائي، ويشكل مصدر الدخل الأساسي لأكثر من مليون أسرة.

وبالنسبة لعمر هاشم، رئيس مبادرة تأهيل مشروع السوكي الزراعي، وهو من المشاريع التي تأثرت مؤخرا بالحرب بعد امتدادها إلى ولاية سنار، فإن أكثر من 12 ألف مزارع في المشروع باتوا عاجزين عن العمل بسبب الصعوبات الكبيرة التي خلفها القتال المستمر في المنطقة منذ أكثر من شهر.

ويحذر هاشم في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية"، من مخاطر كبيرة تواجه أكثر من 100 ألف فدان يعتمد عليها نحو 750 ألفا من سكان المنطقة.

ويبدو الوضع أكثر كارثية في إقليم دارفور، الذي يعتمد أكثر من 85 بالمئة من سكانه على الزراعة، حيث أجبرت الظروف الأمنية الحالية معظم السكان على ترك قراهم ومناطقهم والنزوح بعيدا عن أراضيهم الزراعية.

جرح دارفور المفتوح

دمار هائل

يشير خبير الري والسدود أبو بكر مصطفى إلى تأثيرات كارثية للحرب على المساحات الزراعية المروية، التي تشكل عصب الإنتاج الزراعي في السودان، مقدرا "خروج نحو 90 بالمئة من هذه الأراضي عن الإنتاج في بعض المناطق".

 ويقول مصطفى لموقع "سكاي نيوز عربية": "ألقت الحرب تبعات كبيرة على المناطق الزراعية في الولايات الوسطى والجنوبية الشرقية وعدد من ولايات البلاد الأخرى، حيث تعرضت البنية التحتية لدمار هائل، كما توقفت عمليات الصيانة والمتابعة لقنوات الري والآليات في ظل تعطل إدارات المشاريع الكبرى مثل مشروع الجزيرة، ونزوح آلاف المزارعين من مناطقهم".

ويرى أن "الانهيار في القطاع الزراعي وصل إلى قمته خلال الأشهر الماضية، متأثرا بالعمليات القتالية من جهة والدمار الذي لحق بالقطاع خلال العقود الثلاثة الماضية من جهة أخرى".

ويوضح مصطفى أن معظم المناطق التي تأثرت بالحرب في الأساس مناطق زراعية بامتياز، مما يعرض الأمن الغذائي لمئات الآلاف من السكان لخطر كبير.

ويضيف: "لم تتوقف آثار الحرب على المشروعات المروية فقط، بل شملت خلال الفترة الأخيرة العديد من المشاريع المطرية في مناطق جنوب سنار والنيل الأزرق".

والشهر الماضي حذرت وكالات الأمم المتحدة من أن الملايين في السودان يواجهون كارثة جوع غير مسبوقة، وقبل دخول عدد جديد من مناطق الإنتاج الحيوية في سنار والنيل الأزرق دائرة الحرب مؤخرا، قدرت منظمة الأغذية والزراعة العالمية "فاو" تراجع إنتاج الحبوب في البلاد بما بين 46 إلى 64 بالمئة، لكن مع توقف العمل في معظم المشاريع المروية في سنار والسوكي وسنجة والمطرية في الدالي والمزموم يتوقع أن ترتفع الفجوة الإنتاجية بشكل أكبر.

قوات الدعم السريع تعلن سيطرتها الكاملة على مدينة سنجة

حتى المناطق الآمنة

كما تأثر القطاع الزراعي في المناطق الآمنة نسبيا شمالي وشرقي السودان، حيث تضاءلت قدرة المصارف على تمويل المزارعين، كما تضاعفت تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار الوقود التي تضاعفت في بعض المناطق بأكثر من 400 بالمئة، إضافة إلى النقص الحاد في الإمداد الكهربائي بالمناطق التي تعتمد على الري بالطلمبات.

ويقول النعمان علي، وهو مزارع في منطقة دنقلا بشمال البلاد، لموقع "سكاي نيوز عربية": "رغم أن الحرب لم تصل إلى مناطقنا فإنها أدت إلى انحسار الإنتاج بشكل كبير، حيث يعاني المزارعون ارتفاع مدخلات الإنتاج مثل السماد، الذي ارتفعت أسعار الجوال منه زنة 50 كيلوغرام بأكثر من الضعف".

ويشير إلى "الصعوبات البالغة التي يواجهها المزارعون في نقل منتجاتهم إلى أسواق الولايات الأخرى، بسبب الظروف الأمنية وارتفاع تكاليف النقل التي تضاعفت أكثر من 3 مرات منذ اندلاع الحرب، وتوقف معظم الأسواق الرئيسية في العاصمة وأنحاء أخرى من البلاد".

وفقا لمنظمة "الفاو"، فإن أسعار الحبوب ارتفعت خلال الفترة الأخيرة بسبب الاضطرابات التجارية المرتبطة بالنزاع، وعدم كفاية إمدادات الحبوب، والانخفاض المستمر في قيمة الجنيه حيث يتم تداول الدولار الواحد حاليا بنحو 1900 جنيها، مقارنة مع 600 جنيها قبل اندلاع الحرب.

أخبار ذات صلة

وزير خارجية مصر: يجب العمل على الوقف الفوري للنزاع بالسودان
السيسي: "السودان أولاً" هو المحرك لجميع الجهود الوطنية

مؤشرات خطيرة

  • يمتلك السودان 170 مليون فدان صالحة للزراعة، كان المستخدم منها قبل الحرب 40 مليونا فقط، لكن الحرب الحالية تسببت في خروج نحو 60 بالمئة من المساحة المستخدمة عن دائرة الإنتاج.
  • عصفت الحرب بعدد من المشاريع الزراعية، وعلى رأسها مشروع الجزيرة الذي يمتد على مساحة 2.3 مليون فدان ويعتبر أكبر مشروع في العالم يروى بنظام الري الانسيابي، الأمر الذي يسبب خسائر ضخمة ومشاكل اجتماعية واقتصادية وقانونية خطيرة تهدد الأمن الغذائي.
  • تشير التقديرات إلى تراجع تمويل المصارف للقطاع الزراعي بأكثر من 90 بالمئة خلال الموسم الجاري، إذ أثرت الحرب على موجودات وأصول البنوك بشكل كبير.
  • بسبب نقص التمويل، اضطر معظم المزارعين إلى اللجوء للزراعة التقليدية التي لا يزيد فيها إنتاج الفدان عن 3 إلى 5 جوال في الفدان، في وقت يتراوح به معدل إنتاج الفدان في الزراعة الحديثة التي تحتاج إلى تمويل كبير بين 18 إلى 25 جوال.