رغم الدمار الهائل الذي خلفته الحرب المستمرة منذ أكثر من عام والتي أدت إلى مقتل أكثر من 15 ألفا وتشريد نحو 9 ملايين وأحدثت خسائر اقتصادية تقدر بمئات المليارات، إلا أن مجموعات سياسية وإعلامية تقودها عناصر المؤتمر الوطني- الجناح السياسي لتنظيم الإخوان- تسعى للترويج علنا لاستمرار الحرب ورفض أي جهود دولية أو إقليمية لاستئناف عملية التفاوض.
فما الأسباب التي تدفعهم لذلك وما هي القواسم المشتركة التي تجمعهم ببعض القيادات العسكرية المتناهية مع هذا النهج؟
حدد مراقبون ثلاثة أسباب تدفع قيادات تنظيم الإخوان لمعارضة الجهود المستمرة التي ظلت تبذلها الأطراف الدولية والإقليمية لوقف الحرب، مشيرين إلى أن محاولات عرقلة تلك الجهود تجد صدى عند بعض قيادات الجيش لوجود قواسم وأسباب مشتركة، تحركها حاجة التنظيم للعودة إلى السلطة تحت الحماية العسكرية، والتخلص من الكثير من الأعباء والملاحقات القانونية على جرائم خطيرة من بينها فض اعتصام الثوار أمام القيادة في يونيو 2019، إضافة إلى الرغبة في وقف عمليات تفكيك تمكين وفساد النظام السابق ووأد قضية انقلاب 1989.
ووفقا للمراقبين فإن تماسك تنظيم الإخوان وعودته للسلطة مرهونة بقطع الطريق أمام المفاوضات التي من المرجح أن تستبعدهم من أي عملية سياسية تسفر عنها، وذلك بناء على العديد من المؤشرات ومن بينها الاتهامات المتزايدة التي تشير إلى تسببهم في إشعال الحرب ورؤية القوى المدنية الرافضة للحرب والتي تشدد على استبعاد الجناح السياسي للتنظيم- حزب المؤتمر الوطني- من العملية السياسية وتوافق الوسطاء الدوليين حول تلك الرؤية.
وكان المبعوث الأميركي للسودان توم بيريللو قد حذر صراحة من سعي التنظيم للعودة إلى الواجهة مجددا من خلال الحرب، وقال في تصريحات أدلى بها عقب جولة أفريقية وعربية في فبراير إن "جنرالات الحرب" وداعميهم من الإسلاميين المتشددين يقودون السودان وسكانه إلى مصير "مروع" ستكون له تأثيرات بالغة الخطورة على المنطقة ككل. وأضاف "نشهد عودة الفصائل الإسلامية المتشددة التي رأينا السودان يقضي وقتا طويلا في القضاء عليها لاستعادة نوع الديمقراطية التي أرادها الناس".
وتأتي هذه الرؤى والمخاوف وسط تساؤلات حول مدى قدرة قادة التنظيم على الاستمرار في المناورة وشراء الوقت واللعب بورقة التناقضات في ظل وتيرة الانهيار المتسارعة التي تشهدها البلاد حاليا.
تصفية الثورة
يعتقد الكثير من السياسيين، أن التنظيم يهدف إلى إطالة أمد الحرب من أجل تصفية الثورة واستخدام حالة الفوضى لتحقيق أهدافهم السياسية.
ويرى الهادي إدريس رئيس الجبهة الثورية والعضو السابق في مجلس السيادة السوداني، أن سبب اصطفاف مجموعة الإخوان في الاتجاه المعاكس للحل السلمي يعود إلى أن الحروب في حد ذاتها ظلت تشكل دائما وسيلة تنظيم الإخوان لتحقيق أهدافه السياسية، ويوضح أن "تجربة الإخوان التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاما شهدت حروبا في كل أطراف السودان وخلفت خسائر ضخمة وأدت إلى مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين، وعرضت البلاد لخطر التقسيم".
ويعزي إدريس سعي جماعة الإخوان لمنع وقوف الحرب، إلى التخوف من الحل السلمي الذي يعرضهم للانكشاف السياسي ويجعلهم عرضة للمحاكمات بسبب تورطهم في سلسلة جرائم منها فض الاعتصام وانقلاب 25 أكتوبر وحرب 15 أبريل نفسها.
ويقول لموقع سكاي نيوز عربية "الهدف من كل هذه المحاولات التي تعيق مفاوضات الحل السلمي هو سعيهم للعودة إلى الحكم، وإيجاد مخرج لقياداتهم المطلوبة لدى المحاكم الدولية والمحلية... على هذا الأساس فإن الإخوان يرغبون في أن تحقق لهم الحرب حكم السودان إلى الأبد من دون مشروع سياسي أخلاقي".
وفي ذات السياق، يوضح بكري الجام القيادي في تنسيقية القوى المدنية "تقدم" أن مجموعة الإخوان الرافضة للحرب تعتقد أنها بإمكانها الاستمرار في الحكم "عبر تصفية ثورة ديسمبر وخلق صراعات في الأطراف وهذا يعني وقف مسيرة التغيير وتفادي المحاسبة والمساءلة هذا إضافة إلى أنه ليس لهذه المجموعة أي رؤية بديلة للتسلط والاستقواء بجهاز الدولة للتكسب، فالتنظيم تحول إلى تحالف مال وسلطة وبرؤى ضيقة أقرب للعرقية والمناطقية".
تكتيك العودة
يتفق السفير الصادق المقلي والأكاديمي والكاتب المختص في شؤون الجماعات المتطرفة عبد المنعم همت على أن رفض تنظيم الإخوان لوقف الحرب يأتي ضمن تكتيك سياسي يسعون من خلاله للعودة إلى الحكم تحت المظلة العسكرية.
ويقول المقلي لموقع سكاي نيوز عربية: "الإخوان يراهنون على الحسم العسكري منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب وما صاحبها من اتهام لهم بإطلاق الطلقة الأولى، لكن حساباتهم خابت لأنهم كانوا يعولون علي حسم المعركة في غضون أسابيع".
ويشير المقلي إلى أن اعتراض الإخوان للحل السلمي التفاوضي ينطلق من قناعتهم بأنه سيقصيهم من أي عملية سياسية بعد الحرب خاصة وأن المؤتمر الوطني- الجناح السياسي للتنظيم- محظور بالقانون من المشاركة في الفترة الانتقالية.
ويضيف: "سعوا منذ سقوط نظامهم لتقويض مسار التحول الديمقراطي ووأد الفترة الانتقالية، وكانوا يجاهرون بذلك علنا وليس في الخفاء، سيما أن الاتفاق الإطاري الذي كان سيحسم الخلافات العسكرية ينص على تفكيك نظام الإنقاذ وكشف الفساد وأيلولة كل شركات الأنظمة العسكرية والأمنية إلى ولاية وزارة المالية، وهو ما سيؤدي إلى تجفيف منابع مواردهم وتسليم البشير وبقية المتهمين إلى الجنائية الدولية، فضلا عن اتهام كتائب الظل في فض الاعتصام".
ومن جانبه، يعزي همت تمسك الإخوان بخيار الحرب إلى "حرصهم على كسب الوقت، وتجييش الشعب ضد القوى المدنية ولذلك نجد أن هجومهم السياسي يركز على المدنيين الداعين للتحول أكثر من الهجوم على طرف الحرب وهو الدعم السريع".
ووفقا لهمت فإن وقف الحرب يعني للإخوان عودة القوى المدنية بشعارات الثورة التي تعرضهم للمحاكمات على الجرائم التي ارتكبوها.
ويضيف لموقع سكاي نيوز عربية: "باتت لديهم قناعة بأن الشارع لن يتسامح معهم مرة أخرى على الجرائم التي ارتكبوها لذلك فهم يخوضون الحرب بالتحالف مع تنظيمات إرهابية دولية ذات مصالح في انتشار الفوضى".
ويشير همت إلى أن الإخوان يعتقدون أن الانتصارات العسكرية ربما تجعلهم في وضع تفاوضي مريح يتيح لهم اقتسام السلطة مع الدعم السريع أو أي قوى أخرى، إضافة إلى أنهم يسعون إلى استخدام الحرب في تفعيل العاطفة الدينية ونشر الإشاعات وبذلك يستعيدون نشاطهم عبر منصات جماهيرية وعسكرية جديدة على غرار ما كان يحدث إبان حرب الجنوب في تسعينيات القرن الماضي.
قاسم مشترك أعظم
يفسر الخبير القانوني طارق الأمين مسألة تماهي بعض القيادات العسكرية مع الرؤية الإخوانية المناوئة للحل السلمي، بوجود العديد من القواسم المشتركة والمخاوف القانونية التي تدفع قيادات تنظيم الإخوان لمحاولة منع إنهاء الحرب عبر الحل السياسي الذي سيفقدهم مظلتهم العسكرية ويعرضهم بالتالي إلى المساءلة القانونية في العديد من الجرائم التي ارتكبوها منذ سقوط نظامهم في أبريل 2019.
ويشير الأمين إلى وجود قواسم مشتركة في العديد من تلك الجرائم وأبرزها جريمة فض الاعتصام التي تؤكد مشاركة كتائب الأمن الطلابي والشعبي ومجموعات مسلحة أخرى تابعة للتنظيم فيها، وتورط المجلس العسكري أيضا باعتباره الجهة الحاكمة آنذاك حيث تنطبق عليه المواد والقواعد الموجودة في القانون الدولي والقانون الجنائي المحلي والتي تنص بوضوح على مسؤولية القيادة في مثل هذه الجريمة التي وقعت في محيط القيادة العامة للجيش وبعد تخطيط وأوامر صدرت بالتنفيذ وفقا لما أدلى به شمس الدين الكباشي نائب قائد الجيش في مؤتمر صحفي موثق.
وعلى الرغم من الجرائم الكبيرة التي ارتكبها تنظيم الإخوان منذ الاستيلاء على السلطة في العام 1989، ومنها جريمتا مقتل 28 ضابطا في العام 1989 ومجزرة معسكر العيلفون التي راح ضحيتها المئات من المجندين الجدد، إضافة إلى جريمة انقلاب 1989 وعدد من الجرائم الموثقة الأخرى، إلا أن جريمة فض اعتصام الثوار أمام بوابات القيادة العامة للجيش في الخرطوم؛ وما تلتها من ملاحقات في الأحياء والبيوت على مدى أكثر من 5 أيام، تعتبر واحدة من أهم القواسم المشتركة التي تجمع بين عناصر تنظيم الإخوان الرافضين لوقف الحرب ومجموعة من القيادات العسكرية المتناهية مع ذلك الرفض.
وتعتبر جريمة فض الاعتصام واحدة من أبشع الجرائم في تاريخ السودان، حيث أدت إلى قتل وإغراق وإخفاء أكثر من 700 من الشباب؛ وإصابة نحو 3200 بينهم 34 بشلل كامل في حين فقد العشرات أعينهم وأطرافهم.
وفي هذا السياق يقول الأمين لموقع سكاي نيوز عربية: "جريمة فض الاعتصام هي جريمة مكتملة الأركان يعاقب عليها القانون الدولي بأشد العقوبات، ومع اشتراك كتائب الإخوان وغيرها من المجموعات العسكرية في الجريمة، إلا أن مسؤولية القيادة تبدو واضحة بشكل كبير، حيث تنص المادة 86 من القانون الدولي الإنساني على أن قيام أي مرؤوس بالانتهاكات الإنسانية لا يعفي رؤساءه من المسئولية الجنائية أو التأديبية؛ كما تنص المادة 28 من نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية على أن الرئيس يسأل جنائيا عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب مرؤوسين يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين نتيجة لعدم ممارسة سيطرته على هؤلاء المرؤوسين. وتجرم المادة 28 رئيس النظام الحاكم وقت وقوع الجريمة، بالنص الذي يؤكد مسؤوليته المباشرة والذي يقول تقع مسؤولية الجريمة على الرئيس إذا علم أو تجاهل عن وعي أي معلومات تبين بوضوح أن مرؤوسيه يرتكبون أو على وشك أن يرتكبوا هذه الجرائم. أو إذا تعلقت الجرائم بأنشطة تندرج في إطار المسئولية والسيطرة الفعليتين للرئيس. أو إذا لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب هذه الجرائم أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والمقاضاة."
ويضيف الأمين" توافر المئات من الأدلة والقرائن والقوانين الدولية والمحلية الكافية لردع الجهات التي أمرت وخططت ونفذت مجزرة فض الاعتصام، هي التي تجعل القادة المتورطين يتناهون بشكل واضح مع محاولات الإخوان المشتركين في الجريمة أيضا للعودة إلى المسار السياسي الذي يتضمن تحقيق العدالة في كافة القضايا المرتكبة ويسعون بالتالي لتحقيق حسم عسكري يجمع بين الطرفين في سلطة قد تؤدي للتهرب من تلك الجريمة وغيرها من الجرائم ".
لكن الأمين يشير إلى صعوبة تحقيق ذلك المسعى، ويوضح" لا يمكن لأي جهة إطفاء أو طمس تلك الجريمة لأنها ليست من الجرائم التي تسقط بالتقادم أو العفو.
استراتيجية دولية جديدة
في الجانب الآخر، بدأت تبرز العديد من المؤشرات التي تؤكد ارتفاع وتيرة الضغط الدولي الرامي لإجبار طرفي الحرب للعودة إلى طاولة التفاوض، وهو ما يعني وفقا لمراقبي إجهاض محاولات تنظيم الإخوان لإطالة الحرب.
وفي هذا السياق، طلب مجلس الشيوخ الأميركي في جلسة عقدها الأربعاء الإدارة الأميركية باتخاذ موقف "حازم" وأكثر قوة لوقف التدهور الأمني والإنساني، داعيا المبعوث الأميركي لضمان أن تكون جولة التفاوض المقبلة المتوقعة خلال الأسابيع المقبلة، مختلفة عن غيرها من الجولات السابقة التي فشلت في وقف الحرب.
وفي هذا الجانب، ترى الكاتبة صباح محمد الحسن أن تكتيكات تنظيم الإخوان لإفشال جولات التفاوض باتت مكشوفة، مما جعل الوساطة تتبنى استراتيجية جديدة لضمان عدم إجهاض الجهود الجديدة.
ووفقا للحسن فإن الاستراتيجية الجديدة تمثلت في استباق موعد التفاوض بتهيئة البيئة المحيطة، إضافة إلى تكثيف الضغط الدولي الرامي لإجبار القيادات العسكرية للعودة إلى التفاوض والضغط في اتجاه فك ارتباط الجيش بتنظيم الإخوان.
وتقول الحسن لموقع سكاي نيوز عربية: "من المتوقع أن تحقق الاستراتيجية الجديدة اختراقا يضمن عدم قدرة قيادات تنظيم الإخوان العسكرية والسياسية على تقويض جهود الحل، فقائد الجيش ورغم ضبابية موقفه إلا أنه أعلن صراحة أن الظهور الإعلامي المكثف لكتائب الإخوان أضر بالجيش وجعل المجتمع الدولي يدير ظهره له، كما أن نائبه شمس الدين الكباشي استبقه في انتقاد تلك المجموعات وقال إن الجيش ليس محلا لرفع الرايات السياسية".