حرب على جبهتين، قد يبدو هذا للبعض ضربا من الجنون، فهو ليس الخيار المفضل لأي جيش أن يقاتل على جبهتين بعيدتين واحدة في الجنوب في قطاع غزة، وأخرى في الشمال مع حزب الله.
فحرب كهذه هي بمثابة وضع الجيش الإسرائيلي نفسه في واحدة من أقدم الحيل الحربية، التي ما زالت ناجحة حتى اليوم "فخ الكماشة"، واحد من أفضل السيناريوهات لأي قائد حربي، أن يضع عدوه بين فكي كماشة، فلماذا قد تضع إسرائيل نفسها طوعا في قلب الفخ؟!
كل ما قلناه صحيح، لكن الأمور في الحرب ليست بهذه السهولة فهناك عشرات الاعتبارات والمعطيات والمعلومات التي تكون عادة أمام صانع القرار، وهناك العديد من الاعتبارات التي تدفع إسرائيل نحو فتح جبهة مع حزب الله على الحدود الشمالية، وعندما نقول جبهة، فنحن نقصد حربا مفتوحة لا تخضع لقوانين - على الأقل ليست القوانين والقواعد التي تحكم المواجهة الدائرة الآن على طرفي الحدود.
الاعتبارات الإسرائيلية
- التخلص من تهديدين في آن واحد، فوفقا للرؤية الإسرائيلية فإن إيران بنت لسنوات طوقا حول إسرائيل، أهم مركب فيه حزب الله في لبنان والثاني قطاع غزة، والآن إسرائيل تعمل بكامل قوتها العسكرية في محاولة لتدمير تهديد القطاع، فلماذا لا تتخلص من الحلقة الأهم في الطوق؟! حزب الله الذي يشكل تهديدا استراتيجيا على إسرائيل، التي اكتشفت ما يمكن لقوة - أقل من حزب الله - أن تفعله على حدود إسرائيل.
- حرمان إيران من خط دفاعها الأول وقوتها الضاربة الأولى على حدود إسرائيل، قوة ستنفذ الضربة الأولى ضد إسرائيل إن هي أقدمت على عمل ما ضد إيران أو برنامجها النووي.
- إسرائيل ترى بأن لديها الدعم أو التفهم الدولي لمثل هذه الخطوة بعد تعرضها لهجوم من حركة حماس، هجوم يشبه إلى حدٍ كبير ما قال حزب الله صراحة أنه يخطط له ضد إسرائيل.
- التحالف الذي بنته الولايات المتحدة ضد الحوثيين في باب المندب يقوم بعمل مهم - حتى ولو من باب التضامن والتفهم لوضع إسرائيل ومثل هذا التحالف غير مضمون التشكل في حرب مستقبلية مع حزب الله، تقدر إسرائيل أن الحوثيين سيشاركون فيها.
- قضية إعادة السكان الإسرائيليين إلى تجمعاتهم السكانية على السياج الحدود مع لبنان وضرورة ضمان أمنهم، خاصة بعد ما شهده هؤلاء في السابع من أكتوبر في غلاف غزة، وتفهم المجتمع الدولي لمثل هذا المطلب الإسرائيلي.
- الاحتياط الإسرائيلي الذي تم استدعاءه في بداية الحرب أصبح الآن جاهز للقتال خاصة مع التدريبات أو حتى خوض القتال الحقيقي داخل القطاع، صحيح أن القتال في القطاع يختلف عن القتال في لبنان لكنه على الأقل يعطي الجنود الحد الأدنى من الجهوزية الحربية.
- بعد الانقسام وزيادة الاستقطاب على الساحة الدولية وبدء التحول من مرحلة القطب الواحد إلى العالم المتعدد الأقطاب، فإن الولايات المتحدة والدول الغربية ترى في حركة حماس جزءا من محور - أو قطب إن شئت – تشارك به إيران لكنه بالرؤية الواسعة لا يقف عند طهران بل يصل إلى موسكو وبكين، وبالتالي فالحرب الدائرة الأن تحظى بموقف أميركي داعم لإسرائيل ليس فقط من أجل عيني تل أبيب، بل لأن واشنطن لا ترغب برؤية محور إيراني روسي صيني ينتصر على إسرائيل، وقد تتخذ الولايات المتحدة موقفا مشابها داعما لإسرائيل في حرب ضد حزب الله.
- التأييد الشعبي الداخلي الإسرائيلي للحرب خاصة بعد الضربة التي تلقتها إسرائيل في السابع من أكتوبر وهي ضربة قاسية لإسرائيل لم يتضح تأثيرها على المجتمع الإسرائيلي بعد.
- رغبة بعض الساسة والعسكر في إسرائيل لاستمرار الحرب وتوسعها، لأسبابهم الشخصية، فهؤلاء بعد فشل السابع من أكتوبر ويقينهم بالمحاسبة بعده، قد يسعون للهروب إلى الأمام بحثا عن إنجاز ما قد يمنحهم الحصانة الشعبية من المسائلة، فإن قضيت على حماس وحزب الله في نهاية الحرب، فلا أحد سيحاسبك على بداية الحرب، على مبدأ أن الحكمة في الخواتيم.
- الوضع السوري الذي لا يسمح بدعم سوري حاسم لحزب الله حتى وإن توفرت النوايا إضافة إلى وضع لبناني متأزم غير مسبوق يضعف من لبنان كبلد ومن حزب الله وجمهوره وحتى يقلل إلى حد بعيد من الدعم الشعبي اللبناني لخيار الحرب في ظل أزمة اقتصادية تضع البلد على حافة الإفلاس.
اعتبارات مهمة ووجيهة
بعد سرد هذه القائمة الطويلة مما يبدو على أنها محفزات لشن إسرائيل الحرب على لبنان، سيبدو أن هذا الخيار هو الخيار الأمثل لإسرائيل في هذه اللحظة، وهناك من يرى ذلك كما قلنا، لكن هناك اعتبارات أخرى مهمة ووجيهة لا بد أن وحدة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية – أمان – قد أعدت دراسات مفصلة عنها لتعرضها على المجلس الحربي في "البئر" – الاسم الذي اصطلح عليه الجيش لمقر القيادة المحصن أسفل وزارة الدفاع في تل أبيب:
- حزب الله ليس حماس فحزب الله يملك قوات أضخم بكثير من حيث العدد مما تملكه حماس، وهي قوات مدربة ذات خبرة على القتال في المدن، بعد حرب مدن طويلة في سوريا اكتسب فيها الحزب خبرة قتالية لا تقدر بثمن.
- الجيش الإسرائيلي الذي لم تختبر أجيال منه القتال الطويل في حرب حقيقية في المدن، إذ كان الجيش الإسرائيلي إلى حد كبير يعمل كقوة شرطية لقمع مواطنين فلسطينيين في الضفة الغربية، مسلحون بأفضل الأحوال بأسلحة خفيفة وفي الغالب محلية الصنع. والآن هذا الجيش يدفع ثمن ذلك غاليا في أزقة قطاع غزة في مواجهة قوة أفضل تنسيقا وتسليحا من شبان الضفة الغربية، فهل هو جاهز بما يكفي لمواجهة حزب الله؟!
- حزب الله لديه عمق استراتيجي في بلد كلبنان وحدود طويلة مع سوريا التي يملك فيها الحزب قوات موالية مدربة هي الأخرى على القتال ويمكن أن تعمل على إمداد حزب الله بكل ما يحتاجه في الحرب من السلاح إلى الطعام والمؤن وليس من السهل أن تفرض عليه إسرائيل طوقا محكما كما على حركة حماس.
- حرب غزة أظهرت لإسرائيل معنى الحرب المتكافئة، صحيح أنه لا يوجد تكافؤ بين الجيش الإسرائيلي وبين قوات حماس ولا مقارنة بين إمكانيات الطرفين، لكن حرب الأنفاق حدت إلى درجة كبيرة من تأثير سلاح الطيران الإسرائيلي الذي لا يستطيع العمل ضد قوات مختفية على عمق 30 مترا تحت الأرض، الأمر الذي يستوجب تدخل القوات البرية، وتظهر التقارير الإسرائيلية أن شبكة أنفاق حزب الله أكثر تطورا من أنفاق حماس.
- لدى حزب الله سلاح جو، قد يبدو هذا غريبا لكن للحزب أسطول ضخم ومتنوع من المسيرات التي أثبتت المواجهة الدائرة على الحدود الشمالية قدرتها على الوصول إلى أهداف إسرائيلية بدقة، كما أنها تمنح الحزب وسيلة هامة للاستطلاع والكشف، وقد اكتشف العالم اليوم أهمية وجود سلاح مسيرات على أرض عدو غير معروفة لها، لكنها قادرة على إلحاق الضرر بقوات الجيش المتحركة وبالأهداف الاستراتيجية المهمة وبدقة عالية.
- لدى حزب الله عشرات آلاف الصواريخ بمديات متنوعة يفوق تعدادها المائة ألف صاروخ وقسم كبير منها بات تعديلها لتصبح ذات دقة عالية قادرة على استهداف أي نقطة في إسرائيل وبمجال خطأ لا يتجاوز بضعة أمتار، وهذه الصواريخ قادرة على إلحاق ضرر جسيم بالبنية التحتية الإسرائيلية من ماء وكهرباء واتصالات، والمساس بهذه المرافق سيجعل المواطن الإسرائيلي يذوق طعم الحرب الحقيقية للمرة الأولى وليس عبر شاشات التلفزة في صالون بيته يراقب قوات الجيش تقاتل على أراض بعيدة، فهو على الأغلب لن يملك الكهرباء في صالون بيته أثناء الحرب ولن يجلس أصلا في صالونه بل سيقضي ليال طويلة في الملاجئ.
- قد تكون القبة الحديدية التطور الاستراتيجي الأهم في جولات إسرائيل القتالية مع القطاع في السنوات الأخيرة، فهي قادرة على إعطاء نسبة حماية مرتفعة وغير مسبوقة للمدن والتجمعات الإسرائيلية وبذلك تمنح إسرائيل نفسا طويلا في الحرب مع تحييد خطر الصواريخ على المدن إلى حد بعيد. لكن كل منظومة دفاع جوي لها درجة إشباع – كمية صواريخ قصوى في وقت محدد تستطيع المنظومة مواجهته واعتراضه – وفوق هذا المستوى لن تستطيع المنظومة اعتراض كل الصواريخ، ومع كمية الصواريخ الموجودة لدى حزب الله فهو قادر على تخطي نسبة الإشباع لمنظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية.
- مشكلة أخرى تعاني منها منظومات الدفاع الجوي الصاروخي هي صواريخ الاعتراض، وهي في الغالب صواريخ معقدة قوية وسريعة وذات تقنية عالية، لكن أيضا ذات تكلفة عالية، وفي كثير من الأحيان تحتاج المنظومة لإطلاق صاروخين ثمينين بتكلفة مئات آلاف الدولارات فاعتراض صاروخ يكلف ربما ألف دولار، وإسرائيل قد استنفذت في الأسابيع الأولى للحرب معظم مخزونها من صواريخ الاعتراض للقبة الحديدية حتى أنها طالبت الولايات المتحدة بتزويدها بصواريخ الاعتراض للقبة الحديدية، وفي حرب مع حزب الله ستتنفذ صواريخ الاعتراض الإسرائيلية بسرعة أكبر من قدرة إسرائيل على تصنيعها وسد النقص بالمخزون لديها، وهذا ما سيجعلها مرتبطة تماما بالولايات المتحدة وحسن نواياها لتقوم بالدفاع عن نفسها ضد حزب الله.
- حرب مع حزب الله ستنتهي باتفاق وقف إطلاق نار مع حزب الله، ففي الحرب في غزة ما زالت تصر إسرائيل على هدف الفضاء على حركة حماس وترفض أي اتفاقية مع الحركة تضمن الوقف الكامل للحرب أو تضمن بقاء حماس في قطاع غزة، وبصرف النظر عن قدرة إسرائيل تنفيذ هذا الهدف، إلا أنه من وجهة نظر إسرائيل هناك احتمال لتحقيقه، لكن بسبب الظروف المختلفة في لبنان فإسرائيل لم تطرح ابدا امكانية القضاء على حزب الله – الأمر الذي يعني احتلال لبنان بالكامل – وهو أمر غير واقعي وحتى هذا لا يضمن القضاء التام على حزب الله، وبالتالي رغم الدمار الذي ستلحقه إسرائيل بالحزب وبلبنان كبلد إلا أنه في نهاية الحرب سيكون حزب الله ما زال قائما وبالتالي قادر على إعادة بناء قواته بسرعة وبدعم إيراني وبالتالي لا جدوى كبرى من الحرب ضد عدو لن تستطيع القضاء عليه بشكل نهائي ولن تستطيع أن توقع معه اتفاقية سلام واعتراف مشترك، وبالتالي الحرب معه ستكون جولة أخرى في انتظار جولات قادمة. وليس عبثا أن نتنياهو يتحدث دائما عن انتصار حاسم ضد حماس، و"حاسم" هنا هي كلمة السر، فأي نتيجة قريبة من التعادل ستحتسب انتصارا للطرف الأضعف، حماس في غزة أو حزب الله في لبنان، وانتصار آخر لحزب الله بصورة تعادل، يشكل ضربة قاسمة لقوة الردع الإسرائيلية في المنطقة وسيجعلها عرضة لضربات مستقبلية.
- لبنان ليس غزة، حرب على لبنان ستلاقي معارضة أكبر بكثير من حرب على غزة، فلبنان كدولة ومؤسسات وعلاقات خارجية ليس قطاع غزة المعزول، فهناك دول ستتحرك سريعا لإنقاذ لبنان والحيلولة دون انهياره كدولة، بعيدا عن الدول العربية هناك فرنسا مثلا بعلاقتها المميزة مع لبنان.
وبعد عرض كل هذه الاعتبارات المطروحة أمام متخذي القرار في إسرائيل تتضح الأسباب أكثر لكلا السيناريوهين لكن الصورة العامة تبقى صعبة وملتبسة، وفي أغلب الأحيان يأتي التنبؤ بالطقس في المرحلة الثانية من حيث الصعوبة بعد التنبؤ بالحروب، لكن على الأقل عرض الوضع القائم يجعلنا نفهم أكثر أن شن حرب إسرائيلية شاملة على حزب الله ليست مسألة رغبة فقط، بل هي اعتبارات كثيرة – أكثر حتى مما ذكرناه، وعلينا ألا ننسى أبدا أن نفس الاعتبارات أيضا تطرح في "بئر" حزب الله، في مكان ما بالضاحية الجنوبية، وهناك أيضا قادة للحزب يشاهدون هذه الاعتبارات لكن من زاويتهم الخاصة ومن الجهة المقابلة.