في الليلة التي ضرب فيها الانفجار منزل عائلته في قطاع غزة، كان أحمد الناعوق على بعد أكثر من 2000 ميل، لكنه ظل مستيقظا، في ذعر لا يمكن تفسيره.
فتح هاتفه المحمول ليجد أن صديقا قد كتب رسالة ثم قام بحذفها. اتصل به الناعوق من لندن. الكلمات التي جاءت من الطرف الآخر كانت مثل ضربات مطارق فوق رأسه: ضربة جوية. الجميع قتلوا.
بعدها بأربع ليال استيقظ عمار البطة مذعورا من نومه في مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة عندما انهار عليه جدار غرفة نومه. فقد اخترق صاروخ شقته في الطابق العلوي وانفجر في الطابق الأسفل منه.
كان يخطو فوق الأنقاض، ويسلط ضوء هاتفه المحمول على الحطام، وينادي على أقاربه الستة عشر.
ونادى عليهم، ثم بكى، فلم يرد عليه سوى الصمت.
إسرائيل تحمل حماس المسؤولية
قتلت أجيال كاملة من العائلات الفلسطينية في قطاع غزة المحاصر، من الأجداد إلى الأطفال الرضع الذين لم يتجاوز عمرهم بضعة أسابيع، في غارات جوية في الحرب بين إسرائيل وحماس، والتي يقول الجيش الإسرائيلي إن الهدف منها هو استئصال الحركة من القطاع الساحلي.
وتقع الهجمات على نطاق لم يسبق له مثيل منذ سنوات من الصراع بين إسرائيل وحماس، حيث أصابت المناطق السكنية والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس، بل وضربت مناطق في جنوب غزة حيث أمرت القوات الإسرائيلية المدنيين بالفرار.
وتقول إسرائيل إن هدف الحرب هو تدمير حماس في أعقاب الهجوم الذي قامت به الحركة المسلحة في 7 أكتوبر على جنوب إسرائيل.
وبينما تؤكد إسرائيل أن الهجمات تستهدف النشطاء المسلحين وبنيتهم التحتية، فإنها تلقي باللوم في ارتفاع عدد القتلى، أكثر من 11500 شخص وفقا لوزارة الصحة في غزة، على حماس، قائلة إن الحركة تعرض المدنيين للخطر من خلال العمل وسط السكان وفي الأنفاق تحت المناطق المدنية.
لكن حجم الدمار والخسائر في الأرواح في غزة، حيث تم القضاء على عائلات بأكملها في ضربة واحدة، أثار تساؤلات مقلقة حول التكتيكات العسكرية الإسرائيلية.
أجيال كاملة ضحية الهجمات
سيستغرق الأمر ساعات طويلة من الرعب والفوضى قبل أن تستقر الحقيقة مثل الرماد الناتج عن انفجار 20 أكتوبر الذي دمر منزل عائلة الناعوق، وراح ضحيته 21 من أقاربه.
وكان من بينهم والده البالغ من العمر 75 عاما وشقيقيه و3 شقيقات وأطفالهم الثلاثة عشر.
وقال الناعوق، وهو طالب دراسات عليا في لندن، للأسوشيتد برس "لا أستطيع تصديق أن هذا حدث بالفعل، لأنني إذا فكرت فيما يعنيه ذلك، فسوف أدمر".
وكان والده نصري قد أبلغه مؤخرا أن منزل شقيقته آية في شمال غزة دمر، وأنها تقيم معهم في مدينة دير البلح بوسط البلاد، جنوب المنطقة التي أمرت إسرائيل الفلسطينيين بمغادرتها.
ويتذكر الناعوق أنه أجاب أن البيت يمكن إعادة بنائه، وأن المهم أنها وأطفالها بخير.
لكن بعد ساعات فقط، قتلوا جميعا: ولاء، أذكى أطفال الناعوق الحاصلة على شهادة في الهندسة، وأطفالها الأربعة؛ وآلاء وأطفالها الخمسة؛ وآية المعروفة بروح الدعابة وأطفالها الثلاثة؛ والأخ الأكبر محمد؛ والشقيق الأصغر محمود الذي كان يستعد للسفر إلى أستراليا لدراسات عليا عندما اندلعت الحرب.
ولا يزال 9 من القتلى الـ21 تحت الأنقاض، وحال النقص الحاد في الوقود دون قيام طواقم الدفاع المدني بانتشال جثثهم.
كان التعرف على جثث القتلى مؤلما للغاية، إذ لم يتسن التعرف على العديد من الجثث، لأن معظمها كان مجرد أشلاء.
وقالت دعاء، إحدى شقيقات الناعوق، التي لم تكن بالمنزل وقت الغارة، إنها لا تستطيع تحمل رائحة اللحم المتعفن لقتلى تحت الأنقاض. وعرض أحدهم عليها أشلاء تم انتشالها وأخبرها أنها لإحدى الشقيقات.
كان هناك ناجيان: شيماء، زوجة شقيق الناعوق، وعمر، ابن أخيه البالغ من العمر 3 سنوات. وقالت شقيقته دعاء إن ابنة أخيه ملكة البالغة من العمر 11 عاما، نقلت إلى مستشفى الأقصى مصابة بحروق شديدة، لكنها توفيت بعد أن أعطى الأطباء سريرها في وحدة العناية المركزة لمريض آخر لديه فرصة أفضل للبقاء على قيد الحياة.
وقال الطبيب محمد قنديل، من مستشفى ناصر، ثاني أكبر مستشفيات غزة، إنه يتعين على الأطباء اتخاذ قرارات فرز صعبة للغاية، ويترك المرضى المصابون بجروح خطيرة للموت بسبب نقص الأسرة والإمدادات الطبية والوقود.
وقال عن المرضى الذين يحتاجون إلى العناية المركزة والذين يعانون من جروح ناجمة عن انفجارات "نغادر معظمهم لأننا لا نملك أجهزة تهوية أو أسرة.. بلغنا مرحلة الانهيار الكامل".
مزاعم متناقضة
لم توضح إسرائيل كيفية اختيارها للأهداف في قطاع غزة المكتظ بالسكان. لكن المسؤولين الإسرائيليين يقولون إن العديد من الغارات على المنازل تستند إلى تقييمات استخباراتية تفيد بأن نشطاء حماس المطلوبين موجودون بداخلها. على الرغم من أنها لا تقدم سوى القليل من التفاصيل، إلا أن إسرائيل تقول إن كل غارة جوية تتم مراجعتها على يد خبراء قانونيين للتأكد من امتثالها للقانون الدولي.
وينفي العديد من الأسر في غزة أن تكون لمنازلها أي علاقة بحماس.
ولا تفرق وزارة الصحة في غزة بين المدنيين والمقاتلين، لكنها تقول إن غالبية الفلسطينيين الذين قتلوا كانوا قصرا ونساء، أكثر من 4500 و2200 على التوالي.
وفقدت ما لا يقل عن 304 عائلات ما لا يقل عن 10 من أقاربها؛ وفقدت حوالي 31 عائلة أكثر من 30 فردا، وفق تقرير وزارة الصحة الصادر في 6 نوفمبر. ومن المرجح أن يكون هذا العدد أعلى الآن مع استمرار القصف الإسرائيلي المكثف.
ومن بين الأسر التي شهدت أكبر عدد من الضحايا، العديد منهم من الأطفال، عائلة الأسطل.
فقد فقدت عائلة الأسطل 89 من أقاربها، 18 منهم أطفال دون سن العاشرة، من بينهم 3 أطفال لم يبلغوا عاما واحدا، وفق تقرير الوزارة الصادر في 26 أكتوبر. وأضافت الوزارة أن 74 فردا من عائلة حسونة قتلوا، بينهم 22 طفلا تتراوح أعمارهم بين سنة و10 سنوات. وفقدت عائلة النجار 65 من أقاربها، 9 منهم تحت سن 10 سنوات و13 تحت سن 4 سنوات.
ويقول عمار البطة إن أقاربه جميعهم من المدنيين وليس لهم أي صلة بحماس.
وكانت عائلة ساق الله، أبناء عمومته المعروفون بمتاجر الحلوى في مدينة غزة، لجأت إلى منزل عائلة البطة المكون من 4 طوابق في خان يونس، استجابة لأوامر الإخلاء الإسرائيلية.
وتحدث أحمد ساق الله، 42 عاما، عن إعادة بناء منزل عائلته الذي دمره القصف، وتطلعه إلى إصلاح السباكة والطلاء.
وقال عمار "أحلام بسيطة وجميلة".
إلا أنه بعد 10 أيام قتل جميع أفراد عائلة ساق الله الستة عشر، من نادية (69 عاما) إلى الطفل أسعد (أقل من عام) في الهجوم الذي وقع قبل فجر 24 أكتوبر.
سؤال بلا رد
سأل الناعوق عبر مجموعة عائلته على تطبيق واتساب ليلة الانفجار الذي دمر منزلهم "أخبروني، كيف حالكم يا شباب؟" لكن سؤاله بقى عالقا دون إجابة.
بعد المسافة جعل هذه الأخبار المدمرة غير قابل للتصديق. فمن خلال ليالي لندن الهادئة، حيث يتردد صدى أصوات المرح في المطاعم والحانات، يصعب على الناعوق تخيل الغارات الجوية وهي تضيء سماء غزة، وصراخ السكان المذعورين، وعائلته التي ترقد تحت الأنقاض بلا حياة.
وهو ليس لديه أي فكرة عن مكان دفن جثث أقاربه، فلم يكن هناك مساحة كافية في مشرحة المستشفى للاحتفاظ بهم. وقد يكونوا قد دفنوا في مقبرة جماعية، لكن الناعوق ليس لديه أي وسيلة لمعرفة ذلك.
وقال البطة إن افراد عائلة ساق الله دفنوا في مقبرة عائلته بخان يونس، وأضاف "جفت الدموع".
في ظل فوضى الحرب، تتم عملية تسجيل الموتى بشكل متسرع ومحزن.
يبدأ الأمر بقيام الأقارب بتدوين أسماء الموتى والمفقودين، ثم يحفرون تحت الأنقاض بأيديهم، وينادون عليهم لعل إجابة تصلهم. ولاحقا، تصدر المستشفيات شهادات الوفاة.
ويتساءل الأقارب المكلومون، الذين يؤكدون أنه لا يوجد أحد في أسرهم على صلة بحماس: "لماذا؟"
ويتساءل الناعوق " لماذا يقتلون الأطفال والمسنين، وقد كانوا جميعا من المدنيين؟ ما هو المبرر لقصف منزلي؟"
ويستطرد قائلا "أتمنى أن ألتقي ذات يوم الشخص الذي ضغط على الزناد. أريد أن أسأله: لماذا فعلت ذلك؟"