يفاقم هطول الأمطار على قطاع غزة معاناة الفلسطينيين الذين نزحوا من مدينة غزة وشمال القطاع إلى الجنوب بسبب الحرب الإسرائيلية.
فالنازحون يعيشون تحت خيام لا تقيهم برد الشتاء، وتتداعى وتغرق بسهولة مع أولى زخات المطر. فهذا هو أول اختبار للنازحين مع موسم الأمطار تحت خيام النزوح الجديد في جنوبي قطاع غزة.
لا سقف هنا يؤويهم، ولا حائط يقيهم لسعات رياحٍ وبَلَلَ أمطار باغتتهم كما باغتتهم غارات جوية وقصف وهم نيام أو يحاولون.
ويقول أحد النازحين خلال حديثه لكاميرا سكاي نيوز عربية: "عندما هطلت الأمطار هذا الصباح وضعنا بعض القوارير علها تقينا من تسرب الماء، فنحن الآن نعيش وضعا مأسويا يصعب وصفه".
مع اقتراب فصل الشتاء في غزة، تتضاعف معاناة مئات الآلاف من النازحين الذين يعيشون تحت الخيام وفي مراكز الإيواء، وتتصاعد مخاطر انتشار الأمراض بينهم، لا سيما منهم الأطفال الذين يفتقرون لفراش ورداء كافٍ يتدثرون به من البرد.
وتضيف إحدى النازحات قائلة:"استفقنا هذا الصباح على هطول الأمطار التي بللت كل الأثاث الذي نملكه حاولنا جاهدين حماية البعض منها دون جدوى".
وتبقى الحيلة الوحيدة التي لجأ إليها النازحون تحت الخيام البدائية للاحتماء من المطر هي تغطيتها بقطع النايلون.
في مثل هذه المواقف تبدو حاجة النازحين للمساعدات الإنسانية أمراً ملحاً، وسط نداءات دولية تحث على سرعة إدخالها وزيادة كمياتها لتخفيف ما يمكن تخفيفه من تداعيات حرب قد يطول مداها.
الجمعيات الخيرية ملاذ النازحين جنوبي غزة
مع استمرار الحرب في قطاع غزة يزداد الوضع الإنساني تفاقما.وفي ظل توقف الخدمات والدعم الإنساني، يلجأُ النازحون في جنوب القطاع إلى الجمعيات الخيرية للحصول على ما تيسر من الطعام، في ظل أزمة إنسانية حادة.
ضاقت السبل أمام النازحين إلى جنوب قطاع غزة، ولم يعد أمامهم من معيل سوى الجمعيات الخيرية في ظل ظروف شديدة الصعوبة تعم قطاع غزة.
في هذا المكان في رفح، جنوب القطاع تمتد الطوابير المكتظة لتقف في انتظار وجبة توزعها إحدى الجمعيات الخيرية المحلية. ويقف الصغار والكبار حاملين الأواني التي يحملون فيها الوجبة التي توزع عليهم.
ويصرح احد العاملين في جمعية القاسمية الخيرية قائلا: "يتوافد علينا أناس كثيرون من المخيمات ومن المدارس في غزة".
أكلات يومية يطهوها الطباخون العاملون في الجمعية الخيرية، ووجبات موجهة لأعداد كبيرة من النازحين الذين لم يعد أمامهم من سبيل للظفر بلقمة تسد الرمق سوى هذه الجمعيات التطوعية.
وفي ظل انقطاع الكهرباء والغاز وفقدان المرافق الحياتية اضطر المتطوعون ضمن هذه الجمعية إلى إيجاد وسائل بديلة، من ذلك العودة إلى الأساليب القديمة واستخدام الخشب للطهي. حيث يقول العامل في جمعية القاسمية الخيرية: "نقدم خدماتنا في ظروف قاسية خاصة أمام انقطاع الكهرباء والغاز، حيث عاد بنا الزمن إلى العصر القديم من خلال استعمال الحطب لنوقد بها النار لنتمكن من إطعام هؤلاء الناس".
هذه الجهود التي تبذلها الجمعيات الخيرية التي أصبحت المسكّن المؤقت لجوع عشرات الآلاف من النازحين، تتزامن مع مخاوف من انقطاع وشيك لعمليات الإغاثة الإنسانية الأممية.
فقد حذرت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" من توقف العمليات الإنسانية خلال 48 ساعة، بسبب عدم السماح بدخول الوقود إلى القطاع المحاصر.
وقال مدير الوكالة إن المقاولَيْن الرئيسيَيْن لدى الأونروا توقفا عن العمل بسبب نفاد الوقود. وأوضح أن هذا الأمر سيحرم عشرات آلاف الفلسطينيين من مياه الشرب في القطاع، حيث يعيش أكثر من مليوني شخص ويعتمدون جميعا وبشكل كامل على المساعدات.
وفي ظل غياب أفق واضح لانتهاء الحرب في غزة، يبدو الوضع مقبلا على مزيد من تفاقم الأزمة الإنسانية، فيما ينتظر السكان أي بوادر اتفاق بين حماس والإسرائيليين، آملين في انتهاء معاناتهم وعودتهم إلى حياتهم الطبيعية.
الحرب تجبر السكان على "الحياة البدائية"
بعد أكثر من شهر من القصف المتواصل والعنيف لقطاع غزة، اضطرت مئات الآلاف من العائلات للنزوح جنوبا والتأقلم مع ظروف عيش جديدة. فمن طرق التواصل والمواصلات إلى الطبخ وشراء احتياجاتهم اليومية، لم يبقَ شيء على حاله وسط القصف.
فبعد أن غيرت الحرب مجرى الحياة في غزة بات المشي على الأقدام أو ركوب العربات التي تجرها الحصن هي الطريقة التي يعتمد عليها الفلسطينيون للتنقل لقضاء احتياجاتهم جنوبي قطاع غزة بعد شلل أصاب حركة المواصلات بسبب نفاد الوقود ومنع إسرائيل توريده إلى القطاع.
ومع نزوح مئات الآلاف من سكان مدينة غزة نحو المناطق الجنوبية تسبب بنفاد مخزون المواد الغذائية في أسواقها وغلاء أسعارها، بات مشهد الأرفف الفارغة في أكبر مراكزها التجارية أمرا واقعاً والتزود بالقليل مما شح وندر من السلع والبضائع حدثا يومياً.
وخلال حديثها لـ"سكاي نيوز عربية" قالت إحدى المواطنات إنها ذهبت لأكثر للتسوق لأكثر من مرة، لكنها لم تستطع الشراء إما بسبب نفاذ المنتج الذي تبحث عنه أو ارتفاع سعر ما تبقى من معروض في المحلات التجارية.
واقعٌ إنساني بائس دفع بسكان جنوبي غزة ومعهم النازحون لاستخدام وسائل بدائية كالطهي على الحطب مع نفاد غاز الطهي أيضاً. وهو ما أكد طباخ خلال حديثه لـ"سكاي نيوز عربية" حيث قال: بعد انقطاع الغاز بشكل كامل في قطاع غزة اتجهنا للحطب الذي بدأ بدوره في النفاد أيضا".
أطفال غزة يعيشون ظروفا قاسية
لا تميز الحرب في غزة بين إمراة ورجل، لا بين كبير في السن أو صغير، فقد قلبت حياة الغزيين رأسا على عقب ويبقى الأطفال الحلقة الأضعف في كل الصراعات.
تكتظ بهم خيام النازحين ومراكز الإيواء من الحرب الإسرائيلية في غزة، هم أطفالٌ تغيرت حياتهم بعد أن قلبت الحرب أحوالهم، فهذا يحيى مع أقرانه أصبح بائعاً لأمشاط الشعر، ومحمود الذي اختار بيع الحلوى للصغار، إذ لم تدع الحرب لهم خيارات أخرى بعد أن أجبرتهم على ترك مقاعد الدراسة وأخضعتهم لصراعٍ مع البقاء.
يقول محمود حمتو وهو طفل نازح يبيع الحلوى: "أضطر للعمل الآن حتى أوفر المال.. وهي المرة الأولى التي أعمل فيها، ففي غزة لم يسبق لي العمل كما أني صحيا غير قادر على الوقوف لوقت طويل وهذا مؤلم".
بين ازدحام النازحين في خيام اللجوء جنوبي القطاع يعيش الأطفال الناجون من الحرب في ظروف إنسانية وصحية قاسية، أجبروا فيها على ما لم يألفوه من العمل والخوف وطول الانتظار.
وتضيف الطفلة ميس أبو حمدان نازحة من غزة تتعلم الخبز على الحطب في حديثها لسكاي نيوز عربية: "أتعلم الخبز والطبخ عن أمي، فأنا لا أرغب في شيء أكثر من العودة لبيتي.. لا أريد العيش في الخيام وتقاسم الحمامات مع بقية الموجودين هنا وانتظار الدور للحصول على الماء أو الاستحمام والبقاء بنفس الملابس لأيام طويلة".
السيدة ثريا كانت على صلة وثيقة بالأطفال قبل الحرب بحكم عملها مشرفة على رياض الأطفال في غزة وباتت اليوم بينهم أيضاً في مراكز الإيواء والنزوح شاهدة على مخاطر ظروفهم وفقدان حقوقهم.
وعن هذه المخاطر قالت ثريا عمار، نقيب رياض الأطفال في غزة: "لا يحظى الطفل هنا على أدنى مقومات الحياة وأدنى حقوقه فهو يفتقد إلى جميع احتياجاته الأساسية من ماء وغذاء ورعاية صحية خاصة أمام تفشي الفيروسات في المكان".
مخاطر إنسانية وصحية لتداعيات حربٍ تضع مستقبل الأطفال في مصير مجهول.
نالت الحرب من أطفال غزة بشكل بليغ فقتلت وأصابت منهم ما يقرب من نصف الضحايا والجرحى ، فيما قلبت حياة من بقي منهم حياً رأساً على عقب.
"رحلة الشؤم"
بكلمة "رحلة الشؤم"، وصف أحد الفلسطينيين قصّة نزوحه الإجبارية من شمال قطاع غزة إلى جنوبها، لما يعانيه النازحون من ويلات في الطريق أو بعد وصولهم للجنوب، ما جعل بعضهم يرى أن الخطر لم ينتهِ بعد ترك منازلهم.
ولا يوجد عدد دقيق لمَن نزحوا من شمال القطاع إلى جنوبه، حيث لم تتوقّف المطالب الإسرائيلية للسكان بالتوجّه إلى الجنوب منذ اندلاع المعارك أكتوبر الماضي.
أظهرت مقاطع فيديو على وسائل إعلام عالمية مسيّرات لآلاف الفلسطينيين حاملين أبناءهم وأغراضهم، رافعين رايات بيضاء وهم متّجهون لأقرب مكان توجد فيها إعاشة وخدمات تقدّمها "الأونروا".
ويروي شهود عيان لموقع سكاي نيوز عربية ما دفعهم للنزوح جنوبا، بعد تلقيهم تهديدات من الجيش الإسرائيلي، بحجة أن المناطق التي بها مساكنهم صارت منطقة عمليات عسكرية.
أصحاب الأمراض.. واقع مأساوي
يعيش المرضى من سكان قطاع غزة واقعا صحيا صعبا، فرضته الحرب الإسرائيلية، لا سيما مع خروج غالبية المستشفيات عن الخدمة بسبب نفاد الوقود والأدوية ونقص المعدات الطبية. كاميرا "سكاي نيوز عربية" رصدت أوضاع بعض من هؤلاء المرضى.
بخطى ثقيلة يجهدها الإعياء من المرض والنزوح، وجد إسلام أبو رقعة ربَ الأسرة المريض بالسرطان، مكاناً له ولأسرته داخل مدرسة تؤوي نازحين من الحرب جنوبي قطاع غزة.
اتخذت العائلة من مختبر العلوم في هذه المدرسة ملجأً لها بعد قصفٍ ادى لتدمير منزلهم في خان يونس جنوبي القطاع، في مصادفة تجسد مقاربة الصراع من أجل البقاء وسط الحرب.
فهنا يحاول إسلام الاعتماد على نفسه في تلقي الرعاية الصحية من مضاعفات مرضه بالسرطان بعد جلائه وأفراد عائلته من مستشفى الصداقة التركي الذي كان يؤويهم ويقدم لهم العلاج قبل أن يخطر بالإخلاء ويخرج عن الخدمة بفعل القصف الإسرائيلي ومحاصرته بالدبابات جنوب غربي غزة.
ويقول أبو رقعة في حديثه لسكاي نيوز عربية: "بسبب هذه الحرب التي أقيمت على غزة تدهور وضعي الصحي كثيرا لعدم تمكني من تلقي العلاجات اللازمة الى جانب إيقاف وتعطيل التصريح الذي بحوزتي للسفر وتلقي العلاج.. هذا إلى جانب غياب التغذية الصحية اللازمة لي".
أما لينا زوجة إسلام فهي الأخرى تعاني من الفشل الكلوي وتحاول رغم قسوة التهجير والمرض وشح الأدوية القيام بمسؤولياتها في رعاية نفسها وزوجها وابنها الذي تبرع لها بإحدى كليتيه وما يزال طريح الفراش.
هي قصة من بين مئات وربما أكثر لمن نزحوا كمرضى ومصابين من مستشفيات غزة التي لم تسلم من ويلات حرب إسرائيل على القطاع.
استهداف المستشفيات في مدينة غزة وخروجها عن الخدمة بعد أن حاصرتها الدبابات الإسرائيلية خلفت مضاعفات صحية خطيرة على حياة آلاف المرضى والمصابين الذين أخروجوا منها قسراً وباتوا بين أوساط النازحين في ظروف إنسانية صعبة يفتقدون فيها للعلاج لأبسط حقوق الرعاية الصحية.
انتشار الأوبئة يهدد سكان غزة
يدفع الاكتظاظ في الملاجئ والمخيمات نحو واقع صحي مخيف في ظل نقص المساعدات الإنسانية بفعل الحصار الإسرائيلي المطبق.
مؤشرات الإصابة بالأمراض باتت مؤكدة، حيث كشفت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية، مارغريت هاريس، عن تسجيل إصابة ما يقرب من 55 ألف شخص بالتهابات حادة في الجهاز التنفسي، وما يفوق عن 33 ألفا بحالات إسهال حاد معظمها من الأطفال ما دون سن الخامسة.
حذرت المنظمة من احتمال انتشار موجة كبيرة من الأوبئة، تهدد بإصابة نحو 600 ألف شخص مهدد بالإصابة لانعدام الشروط الصحية، ولتسبب أزمة الوقود في شل مفاصل الحياة، حيث توقفت أنشطة إدارة الصرف الصحي وجمع النفايات في غزة، والخوف الأكبر من شرب مياه ملوثة بعد توقف محطة تحلية المياه عن العمل واعتماد سكان غزة على المياه الجوفية والصهاريج.
وضع قد ينذر بكارثة يصعب السيطرة عليها في ظل توقف أكثر من نصف المؤسسات الصحية عن الخدمة وشبه انعدام الدواء.