ألقت الحرب الراهنة في غزة والصراع العسكري بين إسرائيل وحركة حماس، بتداعيات واسعة على شتى مناحي الحياة داخل القطاع المُكتظ بالسكان، بين أن آثارًا طويلة الأمد مع هؤلاء الذين عايشوا ما يقترب من 20 يومًا حتى الآن، منذ إطلاق أول رصاصة، لتُخلف في ذاكرتهم مآسي نفسية لا تفرق بين كبير وصغير، قد تستمر طوال الحياة.
في تقرير نُشر مؤخرا، ذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف"، أن الجولات المتكررة من الصراع والعمليات العسكرية خلفت أكثر من 816 طفلًا تحت سن 18 عامًا في قطاع غزة، في حاجة إلى دعم نفسي.
فمنذ هجوم حماس المباغت، عاش هؤلاء الأطفال تحت قصف متواصل، حيث نزح الكثير منهم إلى الملاجئ التابعة لوكالة الأونروا بعد فرارهم من منازلهم دون الحصول على الغذاء أو المياه النظيفة.
وكشف تقرير نشرته "الغارديان" أن الأطفال في غزة باتوا يعانون من أعراض صدمة شديدة، بالنظر لمشاهد القتل والدمار التي عايشوها بعد ما يزيد عن أسبوعين من هجمات حماس، كانت ذروتها منذ مساء الأحد وحتى صباح الاثنين، إذ يقول الجيش الإسرائيلي إنه نفذ 300 غارة جوية على القطاع في يوم واحد.
ونقلت الصحيفة البريطانية عن الطبيب النفسي في غزة، فاضل أبو هين، قوله إن التأثير النفسي للحرب بدأ يظهر على الأطفال، خاصة ما يتعلق بـ"الصدمات النفسية الشديدة"، والتي تشمل أعراضها في "الخوف، والعصبية، والتشنجات، والسلوك العدواني، والتبول في الفراش، وعدم ترك والديهم أبداً".
وأشارت إلى ذلك أيضًا السيدة الفلسطينية حنان النادي، التي أجُبرت على مغادرة منزلها شمالي القطاع إلى الجنوب حيث تقيم في إحدى مدارس الأونروا، بالقول إن اثنين من ولديها يعانون من اضطرابات حادة أثناء النوم، ما يستدعي طمأنتهم ومحاولة التخفيف عنهم.
وقدّرت منظمة الصحة العالمية، أن 120 ألف شخص يعانون من أمراض نفسية جراء الحرب الأخيرة وحدها، في حين بات العدد مرشحًا للزيادة بصورة كبيرة مع استمرار الصراع، أو حال تنفيذ الجيش الإسرائيلي لخطته بالاجتياح البري.
ولذلك، جرى تقديم احتياجات عاجلة لإنقاذ المصابين بصدمات نفسية، بالإضافة إلى الإمدادات الصحية الأساسية لتلبية احتياجات 300 ألف شخص، بحسب المدير الإقليمي للصحة العالمية، أحمد المنظري في حديثه لـ"سكاي نيوز عربية".
وقالت مجلة فوربس الأميركية، إن الأطفال يتحملون وطأة الصراع المتصاعد حاليا، مضيفة أن "الضرر النفسي المتمثل في الخوف المستمر على حياتهم، ورؤية للدمار الكارثي لمنازلهم وممتلكاتهم، والتشريد المؤقت أو حتى الدائم، والمعاناة من انعدام الأمن الغذائي، لها عواقب طويلة الأجل".
ومما يزيد من تفاقم هذه الأزمة الإنسانية، أزمة النقص الحاد في الوصول الكافي إلى المياه النظيفة والصرف الصحي، فضلًا عن معدلات سوء التغذية الحاد والمزمن، والتي ترتفع نسبتها بين الأطفال في غزة.
وقالت وزارة الصحة الفلسطينية، إن ما لا يقل عن 5100 شخص قتلوا في غزة حتى الآن، من بينهم أكثر من 1500 طفل، بينما أصيب 13 ألفا آخرون.
صدمات فادحة
ويعتقد استشاري الطب النفسي جمال فرويز، والذي عمل استشارياً للطب النفسي لدى الأمم المتحدة بعدد من مناطق النزاع، في حديث لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن الحرب الراهنة ستُخلّف تداعيات نفسية فادحة على كافة مواطني قطاع غزة البالغ عددهم قرابة 2.5 مليون مواطن، بيد أن الفئات الأكثر تضررًا وعلى رأسهم الأطفال ستكون الصدمات بالنسبة لهم أكثر قسوة.
وحدد "فرويز" تداعيات الحرب الراهنة على الحالة النفسية لسكان قطاع غزة في عدد من النقاط، قائلًا إن:
- الأثر النفسي للنزاعات والحروب تختلف من شخص لآخر، إذ يكون أشد ضررًا بالنسبة للأشخاص العصابيين، وهم ذوي المؤشرات العالية لخطر تطور والإصابة ببداية الاضطرابات النفسية، إضافة إلى المصابين بأمراض نفسية كالاكتئاب أو الوسواس القهري، أو من لديهم جينات وراثية للمرض النفسي.
- مشاهد القتل والدماء والأشلاء والدمار تؤدي لاضطرابات نفسية بالغة، كما تترك ذكريات صعبة لا تُمحى بسهولة من ذاكرة تلك الأجيال، خاصة حال وجود وفاة شخص قريب منهم.
- في أثناء الدمار الواسع، يقوم السكان بدعم بعضهم البعض نفسياً خاصة أن الضرر طال الجميع، لكن رد الفعل يختلف بين السكان أنفسهم، خاصة من يعانون من آثار ما بعد الصدمة.
- الأعراض النفسية الأكثر شيوعًا، فإنها تتوقف على حسب المرض النفسي والسن، إذ تشمل: الهلع، واضطرابات النوم والطعام، والوسواس القهري، واضطرابات سلوكية لدى الأطفال، بجانب بعض الأعراض الجسدية الناجمة عن التوتر مثل القئ والتهابات الجلد والقولون والبطن والآلام المزمنة.
- في كل الأحوال، فإن الاضطرابات النفسية ستستمر لفترة ليست بالقليلة، وقد تتواصل في الظهور على البعض لنحو 6 أشهر متصلة من وقت نهاية الحرب.
دراسات علمية
وذكرت مجلة الصحة العقلية والنفسية الأميركية، أن 22 في المئة من الأشخاص الذين يعيشون في مناطق الصراعات المسلحة يعانون من الاكتئاب والقلق و"اضطراب ما بعد الصدمة" و"الاضطراب ثنائي القطب" و"انفصام الشخصية"، وأن نحو 9 في المئة من سكان البلدان التي تشهد صراعات عنيفة يعانون من اضطرابات صحية عقلية ونفسية شديدة.
وتشير الأبحاث الصادرة من الكلية الملكية للأطباء النفسيين إلى أن أعراض الاضطراب النفسي بعد الحروب تظهر بعد أسابيع أو في غضون 3 أشهر، من بينها أعراض فيسيولوجية مثل ألم العضلات والإسهال وعدم انتظام النبض، والصداع واضطرابات في الشهية.
وتتزامن الأعراض الفيسيولوجية مع أخرى نفسية تسيطر على المصاب مثل نوبات الفزع والخوف والاكتئاب والقلق والشعور بالذنب، وقد تصل إلى الأفكار والميول الانتحارية.