اختار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارة من ثلاثة أيام إلى الجزائر، أن ينزل ضيفا على عدة منشآت ثقافية وتاريخية، سواء في العاصمة أو في وهران، غربي البلاد.
وأحدث ماكرون تغييرا في الوجهة المعتادة للرؤساء الفرنسيين، حيث جرت العادة أن يزوروا شرقي الجزائر، تحديدا مدينة قسنطينة، بينما اختار الرئيس الحالي مدينة وهران.
بعد 47 عاما على اختيار الراحل جيسكار ديستان لمدينة قسنطينة لزيارتها، بصفته أول رئيس فرنسي يزور الجزائر بعد الاستقلال، قرر ماكرون في ثاني زيارة له إلى الجزائر، أن يذهب إلى مدينة وهران، للوقوف على بعض المعالم الثقافية التي ذاع صيتها في الفترة الأخيرة.
ومن بين المعالم، بيت مصمم الأزياء العالمي الشهير إيف سان لوران، والاستوديو الموسيقي الذي ارتبطت به قصة موسيقى الراي "استوديو مغرب" بوهران، بالإضافة إلى زيارته لكنيسة "سانت كروز" التاريخية.
على خطى تقرير ستورا
وقبل ذلك، كان الرئيس الفرنسي قد اختار زيارة مقبرة "بولغين" الأوروبية، التي تعتبر معلما مهما يضم مئات القبور لقادة أوروبيين وشخصيات تاريخية، كما يوجد بها جناح خاص باليهود الذي عاشوا في الجزائر قبل الاستقلال.
وينظر الباحثون في التاريخ بكثير من الاهتمام إلى هذه الاختيارات، حتى وإن لم تكن المرة الأولى التي يزور فيها رئيس فرنسي مقبرة "بولغين"، خاصة أن توقيتها بزيارة ماكرون طرح الكثير من الأسئلة.
في هذا الصدد، أوضح الباحث في التاريخ والأمين العام للمجلس الأعلى الإسلامي في الجزائر، بوزيد بومدين، أن "ماكرون بهذا البرنامج، يجسد جزءا مهما من مقترحات الباحث والمؤرخ الفرنسي بنجماين ستورا، الذي أوصى في تقريره عام 2021، بضرورة أن تسمح السلطات الجزائرية للفرنسيين الذين عاشوا في الجزائر خلال الفترة الاستعمارية، بزيارة البلاد، وتحديدا مقابر المسيحيين".
وقال بوزيد لموقع "سكاي نيوز عربية": "هناك دلالة سياسية واضحة من خلال هذه الزيارة، فماكرون يحمل مطلب العشرات من أحفاد من عاشوا في البلاد خلال الفترة الاستعمارية، وهو مطلب قابل للتطبيق بالنسبة للسلطات الجزائرية، لكن بشروط".
تصريحات من أمام المقبرة
وأشار ماكرون خلال كلمة ألقاها أمام مقبرة "بولغين"، الجمعة، إلى أنه "يحاول قدر الإمكان مواجهة الماضي، والبحث عن حقيقة ما حدث خلال فترة استعمار الجزائر".
وقال الرئيس الفرنسي: "سنفتح كل الأرشيف للجنة المؤرخين المشتركة التي أنشأناها، من أجل مراجعة الأحداث التاريخية".
وتضم مقبرة "بولغين" التي كان يطلق عليها سابقا اسم "سانت أوجين"، ثلاث مقابر أساسية، واحدة خاصة باليهود وقد شيدت عام 1287. وهم يهود مدينة مايوركا الذين كانوا قد هربوا من أوروبا مع مسلمين من العنف الذي مورس ضدهم.
كما تضم المقبرة الأوروبية الرئيسية التي شيدت عام 1849. أما الجزء الثالث فيطلق عليه اسم" ريباش"، نسبة لحاخام يهودي مدفون فيها، وقد شيدت عام 1691.
"جدول العاصمة"
وفي الجزائر العاصمة، استقرت خيارات الإليزيه لجدول زيارات ماكرون، على زيارة مسجد الجزائر الأعظم، ليكون أول رئيس أجنبي يزور هذا المعلم الإسلامي الذي تفتخر به الجزائر.
وحسب الأمين العام للمجلس الإسلامي الأعلى، فإن هذه الزيارة "جاءت بمقترح من الجهة الجزائرية، نظرا لرمزية المكان والأرض الذي شيد عليها المسجد".
وقال بوزيد: "هناك الكثير من الحكايات التاريخية التي تحفظها الأرض التي شيد عليها مسجد الجزائر الأعظم، فهي شاهدة على فشل المشروع الاستعماري الذي قاده الكاردينال الفرنسي لافيجري عام 1914".
"عندما يقف رئيس فرنسي على أرض مسجد الجزائر الأعظم، فهو في الحقيقة لا يزور مسجدا عاديا، بل يقف على الكثير من الانتهاكات التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي"، حسب بوزيد، الذي أشار كذلك إلى "مجزرة قبيلة العوفية، التي تُتهم بها فرنسا عام 1830 على تلك الأرض".
وقد استهل الرئيس الفرنسي زيارته بالوقوف أما مقام الشهيد الشهير بأعلى الجزائر العاصمة، حيث وضع إكليلا من الأزهار أمام النصب التذكاري.
وهذا التقليد الدبلوماسي لم يعد يستثنى منه أي رئيس أو مسؤول كبير يزور الجزائر منذ افتتاح النصب عام 1986، في عهد الرئيس الجزائري الراحل، الشاذلي بن جديد.
حكاية الطاعون والرهبان
ويتوجه ماكرون، السبت، إلى جبل ماجاجو الشهير بوهران، لما يحمله من رمزية تاريخية ذات طابع ديني مرتبط بالحروب الإسبانية في شمال إفريقيا.
وخلال هذه الزيارة، سيتجه الرئيس الفرنسي إلى كنيسة تتواجد بالقرب من قلعة سانت كروز، وهي الكنيسة التاريخية التي بناها المسيحيون سنة 1850، بعدما فتك الطاعون بمئات الأشخاص من سكان وهران في القرن السابع عشر.
ويرى الباحث في التاريخ، أن "ماكرون بهذه الخطوة، سيقف أمام محطتين تاريخيتين مهمتين، تشكلان حلقة ربط ثقافي وإنساني بين أوروبا والجزائر".
وبالإضافة إلى قصة "الطاعون"، التي تحولت إلى فصول أحد أهم الروايات العالمية التي كتبها الروائي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل، ألبير كامو، بعنوان "الطاعون"، فإن الكنيسة تحتفظ أيضا بذكريات الرهبان السبعة الذين قتلوا عام 1996 بمدينة المدية، والذين تم تطويبهم في كنيسة سانت كروز عام 2018، بينما تظل قضية قتلهم محل جدل.
والمفاجأة، في برنامج الزيارة إلى وهران، جاءت في اختيار قصر الإليزيه لـ"استوديو مغرب" الشهير، قبل أن يتوجه الرئيس الفرنسي إلى زيارة المنزل العائلي لمصمم الأزياء الفرنسي الشهير، إيف سان لوران.
وقال صاحب الاستوديو الشهير بلقب "بوعلام ديسكو مغرب"، لموقع "سكاي نيوز عربية"، وهو يستعد لاستقبال الرئيس الفرنسي: "هذا المكان هو نقطة بداية نجوم أغنية الراي الذي سافروا إلى فرنسا، مثل مامي وخالد، وذاع صيتهم في باريس خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لهذا فالاستوديو له رمزية كبيرة من منظور جزائري وفرنسي".
واكتسب الاستوديو شهرة عالمية في الفترة الأخيرة، عندما طرح الفنان "دي جي سنيك" أغنية مصورة بعنوان "ديسكو مغرب".