منذ تحرير مدينة الموصل من احتلال تنظيم داعش الإرهابي، وسيطرة فصائل الحشد الشعبي على المدينة ومحيطها الريفي، تحولت إلى واحدة من أكثر مناطق العراق غرقا بتجارة وتعاطي المواد المُخدرة، وذلك لتجارة الفصائل بها وتراجع قدرة الأجهزة المُختصة على ملاحقة المتاجرين، إلى جانب انتشار البطالة وتراجع دور المؤسسات التعليمية ودور القوى المجتمعية في المدينة ومحطيها.
شاهر عبد الرحمن يعمل مُدرسا في مدينة الموصل منذ أكثر من عشرين عاما، لكنه تفاجأ قبل خمسة أشهر بأن أثنين من أبنائه مُدمنان على تعاطي مادة "كريستال الميث" المخدرة، التي اكتشف بأن واحدا من رفاقهما المُقربين يتاجر بها بشكل شبه علني في حي "الجوسق" جنوب المدينة.
ومُنذ ذلك التاريخ، أخذ الوالد على عاتقه ممهمة مرافقة ابنيه بشكل أسبوعي إلى "مركز أبن رُشد للعلاج" في العاصمة بغداد.
يقول عبد الرحمن، في حديث مع "سكاي نيوز عربية": "ولداي لم يبلغا الثامنة عشرة بعد، وهُما يافعان يزاولان التعليم بشكل نظامي، وإن توقفا عنه لمدة سنتين بسبب الحرب في الموصل، ولديهما أسرة مستقرة، ومع ذلك انزلقا نحو تعاطي هذا النوع من المخدرات، لأنه منتشر في كافة مناح المدينة، ويُباع بشكل شبه علني، فتجاره الرئيسيون وشبكات الموزعين معروفة جداً، ففي كل حي وربما شارع من المدينة ثمة ما يشبه المُعتمد. وهُم عادة ما يروجون لدعاية تقول إن هذا النوع من المُخدرات أو ذاك ليس مثل باقي الأنواع، لا يسبب الإدامان أو الإضرار بالصحة، فقط لزيادة كمية المتعاطين، خصوصاً في أوساط الشباب. فلا تكاد عائلة واحدة من المدينة أن تخلو من شخص متعاط من أفرادها".
وكانت مؤشرات منظمة الصحة العالمية قبل العام 2003 تقول إن العراق من البلدان الأنظف على مستوى العالم في نسبة الإدمان وتعاطي المواد المُخدرة. بالذات في محافظة نينوى "الموصل"، حيث كانت تنتشر المحافظة الدينية والاجتماعية وقيم العائلات المتماسكة، التي ترفض وتدين مثل هذه السلوكيات.
بعد ذلك انتشرت جميع أنواع المخدرات في العاصمة بغداد والمناطق الجنوبية من البلاد، بسبب قربها من الحدود الإيرانية ودور شبكات التصنيع والتهريب والتوزيع الإيرانية في تلك المناطق، حيث كانت مصادر وزارة الداخلية العراقية تقول إن تجارة المخدرات توفر 400 مليون دولار للمتحكمين بها سنوياً.
الباحث الجنائي العراقي ميسم خردل، يشرح في حديث مع "سكاي نيوز عربية" آلية استقطاب مدينة الموصل لرؤساء شبكات تجارة المخدرات في العراق: "منذ العام 2016 بدأت مدينة الموصل تتحول إلى مركز جذب لتجار المخدرات إلى العراق. فقد صار تحميل ونقل كميات كبيرة منها من الجنوب أسهل بكثير، حيث تزداد الشكوك بأن القوافل العسكرية التابعة لفصائل الحشد الشعبي تقوم بذلك. فالمدينة تحتل مركزاً مثالياً لنقل المواد إلى سوريا وإقليم كردستان، بالإضافة لنشرها وتوزيعها داخل المدينة ومحطيها، حيث يُقدر أعداد السكان هناك بقرابة أربعة ملايين ساكن".
يضيف خردل: "لا تعترف فروع وزارة الداخلية في المدينة بأعداد التجار الرئيسيين ضمن المدينة، لأنها ليست صاحبة السلطة الرئيسية ضمنها، لكن مصادر من داخلها تُسرب للسكان المحليين أرقاما تتحدث عن وجود 250 مروجا معروفا بالنسبة لهم، لا يستطيعون القبض عليهم. كذلك لا تعطي وزارة الصحة أرقاماً عن أعداد المدمنين، لكن كشوفات مراكز العلاج تقول إنهم على الأقل ثمة عشرين ألف مُدمن من بين شباب الموصل".
الأرقام الرسمية السنوية التي تصدرها وزارة الداخلية العراقية، تقول إن الوازرة تصادر ما يُقارب 1.5 طن من المواد المخدرة سنوياً، لكنه رقم لا يعبر عن الواقع أبداً، فأرقام الوزارة نفسها تقول إن المتعاطين الذين تم القبض عليهم خلال العام 2020 وحده تجاوزوا 11 ألف متعاط جديد، الأمر الذي يعني أن الكمية المروجة حقيقة أكبر من ذلك بكثير.
القاضي العراقي رضوان بابا شيخ، المنحدر في مدينة الموصل، يفسر الانتشار الكبير لظاهرة تعاطي المُخدرات في أوساط شباب مدينة الموصل بأربعة أسباب متداخلة: "حسب إحصاء غير رسمي نشرته مفوضية الأمم المتحدة في العراق، فإن الموصل هي ثاني أكثر مدينة عراقية من حيث تعاطي أبنائها للمواد المُخدرة في العراق، بعد البصرة. يحدث ذلك لأن المدينة مُسيطر عليها من قبل فصائل تعتبر تجارة المخدرات من أهم مداخيلها، وحتى أدوات سيطرتها على السكان المحليين. كذلك لأن مدينة الموصل توجد بها أكبر بقعة من العشوائيات على مستوى العراق، وربما العالم، جراء الدمار الذي لحق أكثر من 65 في المئة من بنيتها العمرانية. في هذه العشوائيات ينتشر الفقر والأمية وسوء تطبيق القانون واستحالة ملاحقة المروجين. فوق ذلك، فإن شبان الموصل وكل أناسها يعانون من أوضاع نفسية قاهرة، إذ ليس من مشروع واضح لإعادة إعمارها، وفرص العمل قليلة، وطبعاً ثمة قلق أمني في كل لحظة".