بالكثير من الأسى، يروي باسل حنا، كيف ودع مع ذويه وآخرين سكان مدينة القامشلي أقصى شمال شرق سوريا، عائلة "عزرا" اليهودية في اليوم الأول من العام 1995.
وكان حنا يغالب دموعه وهو يتحدث إلى موقع "سكاي نيوز عربية" عن المشهد الأخير لتلك العائلة اليهودية قبل أن ترحل عن سوريا.
وقبل شهور قليلة رحيل عائلة عزا، اشترت عائلة حنا متجر العائلة اليهودية الذي يطلق عليه"حانوت عزرا" في وسط مدينة القامشلي.
وكان حينها الحانوت الأشهر على الأطلاق في المدينة، يشتري منه سكان المدينة بكل أطيافهم العرقية والدينية حاجاتهم المنزلية، فحانوت عزرا للعطارة كان تقريباً يبيع كل شيء، وبقي كذلك لقرابة قرن كامل، حتى أن السوق المحيط به صار يُكنى باسم "سوق عزرا".
وقال حنا إن عائلته اشترت المتجر بقرابة ضعف سعره السوقي، لأن الحانوت كان يملك ميزة وهوية اجتماعية خاصة في المدينة، فصحاب المحل اليهودي عزرا كان محل ثقة تامة من كامل سكان المدينة، ولأجل ذلك كان حانوته يجذب الزبائن أضعاف ما كانت تفعل الحوانيت الأخرى، التي كانت تمتهن نفس العمل.
عزرا واحد من 5 آلاف
وسمعة حانوت عزرا كانت شيئاً مطابقاً لصورة وهوية يهود مدينة القامشلي، الذي كانوا يُقدرون بقرابة خمسة آلاف، ويشغلون حيزاً واسعاً من السوق التجارية والزراعية للمدينة، التي عُرفت منذ تأسيسها بتنوع سكانها، من عرب وأكراد وسريان وأرمن ويزيديين ويهود.
ويقول سكان المدينة إن التاجر عزرا بأنه هاجر مع عائلته إلى مدينة القامشلي عام 1928، قادماً من مدينة نصيبين التركية، التي كانت تشهد قلاقل سياسية. وقد كانوا جزء من موجة النزوح اليهودية وقتئذ، التي استقرت في مدينة القامشلي حديثة التأسيس حنيها.
وساهم اليهود حينها في تأسيس الكثير من معالمها، بالذات أسواقها المركزية، التي صارت تسمى "سوق اليهود"، الذي كان يشغل كامل المركز، ممتداً من مركز البلدية إلى الحمام المركزي التاريخي، فالمحال التجارية اليهودية كانت محاطة أيضاً بمنازلهم السكنية، التي ما كانت مفصولة باقي أحياء وسكان المدينة.
كان محل ثقة
ويقول الباحث التاريخي أحمد خليل في حديث مع موقع "سكاي نيوز عربية": "لم يكن توافد سكان المدينة على حانوت عزرا لأجل التبضع فحسب؛ فقد كان عزرا محل مشاورة في القضايا الزراعية والاجتماعية والاقتصادية للمئات من السكان. كما أن حانوته الشهير كان موقعا للتواعد بين سكان المدينة والقرى المجاورة، في وقت لم يكن ثمة اتصالات حديثة".
ويتابع خليل: "فوق ذلك، فأن حانوت عزرا كانت مكاناً مُعتبراً للتأمين على البضائع وحتى الأموال لكل سكان المدينة، بما في ذلك أكبر التجار. وكل ذلك كان دليلاً على المكانة الاستثنائية التي كان يشغلها".
تقول الأبحاث الميدانية حول تاريخ المدينة بأن اليهود كانوا أول من سكنه،. فحسب شواهد مقابر المدينة، تكشف المقبرة اليهودية التي تقع على كتف نهر الجقجق في حي "قدور بك" عن تواريخ وفيات تلت السنوات الأولى لتأسيس المدينة، بعضها يعود إلى نهاية العشرينات، وهي تواريخ لا تسبقها أية شواهد مماثلة أخرى في المقابر الإسلامية والمسيحية.
كذلك فإن وجود الكنيس اليهودية والأحياء اليهودية في وسط المدينة، دليل آخر على ذلك، فعائلات مسياح وناحوم ومنحاس وعزرا كانت تشغل مساحات واسعة من ذلك المركز.
أول يهودي في القامشلي
ويروي السكان أن الحاخام موشية ناحوم عبد الله هو أول يهودي استقر في المدينة، وتمكن من شراء مساحات واسعة من الأراضي مع عائلتي نظام الدين وقدور بيك، ثم لحقته باقي العائلات اليهودية.
التفسير الأقرب لنزوح يهود مدينة نصيبين جنوبا، يكمن في طبيعة المهن التي كانت منتشرة في أوساطهم في ذلك الوقت، فقد كانوا تجار الصوف والسمن البلدي والحبوب والسلع اليومية وأدوية الطب الشعبي. كذلك كان منهم صاغة وحرفيون بسطاء.
وكانت شبكة علاقة "زبائنهم" وثيقة الصلة بالسهب "البدوي" جنوب مدينة نصيبين، التي تم الفصل بينها وبين السهب عقب نهاية الحرب العالمية الأولى وتشكيل دولتي سوريا وتركيا، فهاجر اليهود مدينة نصيبين التاريخية ليستقروا في مدينة القامشلي، ويتابعوا تعاملاتهم التجارية والاجتماعية مع سكان السهب.
هاجروا بعد القمة
لأكثر من ثلاثة أرباع قرن، كان يهود المدينة جزء من النسيج الاجتماعي والحياتي والاقتصادي والثقافي للمدينة. إذ لم تشهد المدينة حساسية واحدة بين السكان المحليين تجاه أبناء هذه الطائفة، بل كان ثمة تعاطف من قِبل جميع الأطياف معهم، جراء ما كانوا يتعرضون له من ضغوط أمنية وسياسية من السلطات الحاكمة. إذ لم يكن يُسمح لهم بالسفر أو الحضور في أي مناسبة عامة، بما في ذلك حضور السينما، إلا بموافقة أمنية مسبقة.
أثناء القمة الشهيرة بين الرئيس السوري السابق حافظ الأسد ونظيره الأميركي بيل كلنتون آنذاك، في مدينة جنيف السويسرية عام 1994، تعهدت السلطات السورية بالسماح ليهود مدينة القامشلي بالمغادرة إلى حيثما يشاؤون، فغادر الجميع خلال ستة أشهر من ذلك القرار، عدا عائلتي منحاس، التي هاجرت في وقت لاحق، وعائلة "أبو ألبير"، الذي كان رئيساً للطائفة ورجل أعمال ضمن المدينة، وبقي مع أولاده مقيماً في المدينة حتى عام 2012، حيث اضطر للمغادرة مع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا.
ورغم هجرة اليهود من القامشلي، إلا أن سكان المدينة يحتفظون بالكثير من الذكرات والأحاديث والمرويات عن يهود المدينة، المحملة بأغلبيتها المُطلقة بقيم التعايش المشترك والود، مؤكدين أن اليهود كانوا جزء من كل تفاصيل حياة السكان، وما تزال أسواقهم وشواهدهم محافظة على أسمائها.