شيماء سيدة عراقية لم تتجاوز الثلاثين من عُمرها بعد، تنحدر من ريف مدينة الموصل، لكنها تمتهن التسول مع ابنيها اللذان تقارب أعمارهما 10 سنوات في أربيل.
ظاهريا، تبيع شيماء الورد للسيارات المتوقفة على إحدى إشارات المرور في أربيل بإقليم كردستان العراق، بينما يلمع ولداها زجاج السيارات، لكنها تمارس التسول بشكل واقعي.
وتقول لموقع "سكاي نيوز عربية": "اختفى زوجي منذ قرابة 5 سنوات ولم نتلق أي رعاية من ذوينا الذين هُجروا بأغلبيهم. هُدمت قريتنا ولا نحصل على أي إعانة اجتماعية من السلطات، وليس لدي أي أمل بالحصول على فرصة عمل أخرى، فأنا أمية ولا أعرف أي مهنة، لذا أعمل مع ولدي في هذا العمل منذ أكثر من 4 سنوات، نعمل قرابة 10 ساعات في اليوم، نحصل منه على مبالغ معقولة".
وتشكل حالة شيماء نموذجا لمئات الآلاف من النسوة والأطفال والعجائز المنخرطين في شبكات التسول، التي تجتاح مختلف مدن العراق وزادت أعدادها طوال السنوات الماضية، تصاعدا مع زيادة نسب الفقر واندلاع الصراعات الداخلية والجفاف الذي أجتاح أرياف البلاد، مما دفع أعدادا هائلة من العراقيين غير المتمكنين من تأمين نفقات حياتهم، للخضوع والعمل في تلك الشبكات، إلى جانب أعداد كبيرة أخرى من المهجرين في العراق، السوريون منهم بالذات.
حاول موقع "سكاي نيوز عربية" الحصول على أرقام محددة لأعداد المتسولين في مختلف مدن العراق، سواء من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أو وزارتي التخطيط والاقتصاد العراقيتين، لكن لا وجود لإحصاءات مبوبة، خلا بعض المؤشرات التي أنتجتها دراسات غير حكومية.
إذ تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إن 7.3 بالمئة من الأطفال العراقيين الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما منخرطون في أشكال عمالة الأطفال، وأن 16 بالمئة من هؤلاء الأطفال يعيشون في ظروف صعبة، ووفقا لحسابات تفصيلية فأن أعداد المتسولين العراقيين من الأطفال فحسب تقارب نحو 200 ألف طفل، يضاف إليهم ما يقاربهم عددا من كبار السن عموما والمسنات بشكل خاص.
كرد فعل على هذه الظاهرة، وبعد سنوات من المداولات التفصيلية، فإن الحكومة العراقية قد أقرت أواخر الشهر الماضي مسودة قانون عام لـ"حماية الطفل"، بالتعاون مع مفوضية حقوق الإنسان ومنظمة اليونيسف، وحولته إلى البرلمان لمناقشته وتشريعه قبل تطبيقه، حيث تعهدت الحكومة بأن يكون القانون بمثابة الحل النهائي لهذه الظاهرة.
لكن الباحثة الاجتماعية العراقية أنوار الملا حفيظ شرحت في حديث لموقع "سكاي نيوز عربية"، الصعوبات التي قد تحول دون إمكانية تطبيق ذلك القانون، قائلة: "صحيح أن مسودة القانون الذي اطلعت عليه بها بنود ومواد ناضجة، إلى جانب تحقيقها لمعايير المنظمات الدولية في ذلك الإطار، إلا أن التسول في العراق ليس مجرد مشكلة اجتماعية أو ظرفية بل هو الانعكاس الشرطي والإجباري لمجموع الأحوال السياسية والاقتصادية والتربوية، وهي أحوال في أدنى مستوياتها في العراق".
فـ"المتسولون العراقيون يعتبرون فعليا بمثابة معيلين لعائلاتهم، وبذا مستعدون لفعل كل شيء للاستمرار في ذلك، حتى لو أمنت لهم الحكومة أفضل أنواع التعليم والحماية الجسدية، فطالما أسرهم غير محمية فإن الحكومة لن تتمكن من ضبط الظاهرة"، وفقا للباحثة.
وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية كانت قد تعهدت في وقت سابق بإجراء مسوح ميدانية لكل بؤر التسول في البلاد، وأكدت أنها على تواصل مع مجلس القضاء الأعلى لضبط ومعاقبة منتهكي حقوق الأطفال، بما في ذلك رعاة وزعماء شبكات التسول تلك.
لكن خبراء شككوا في إمكانية تحقيق ذلك المسعى، فالأعداد الكلي للمتسولين يفوق حتى طاقة السجون في العراق.
الباحث العراقي في شؤون العمران سيروان برزنجي، الذي أعد رسالة الماجستير حول علاقة سياسات سوء التخطيط للمدن العراقية مع ارتفاع مستويات الجريمة والعنف والتسول في العراق منذ عام 2003، تحدث لموقع "سكاي نيوز عربية" قائلا: "في الأرياف والمدن الصغيرة تكون سلة الحاجات اليومية بالغة البساطة، لكن مع النزوح الاستثنائي للعراقيين إلى الحواضر خلال السنوات الـ15 الأخيرة بعدد يقترب من 10 ملايين شخص، فإن العشوائيات تفرز طبقة من المهمشين غير القادرين على تحصيل شروط حياتهم بالحد الأدنى".
وأضاف برزنجي: "بالتالي يكون هؤلاء طيعين للدخول في أعمال التسول، التي لا تحتاج لأي تحصيل علمي أو مهارة جسدية، بدليل أن أعداد المتسولين هي الأعلى في مدن بغداد والبصرة والموصل".
وكان للعراق قانون واحد للحد من هذه الظاهرة، أصدرته الحكومات البعثية في أوائل عهدها بأواخر الستينات من القرن المنصرم، وكان مرقما بالرقم "111".
لكن معضلة القانون أنه كان يرى في مسألة التسول مجرد جريمة، لذا كان يضم مجموعة من البنود العقابية فحسب تصل إلى السجن لمدة سنة، من دون أن يضع على عاتق الحكومات أي مهام وواجبات لتفكيك الظروف التأسيسية لهذه الظاهرة، وحماية الأطفال وعائلاتهم اجتماعيا.
وكانت وزارة التخطيط العراقية قد حددت قبل عامين نسبة الفقر في عموم العراق بحوال 20 بالمئة من السكان، متوافقة مع أرقام ورقة السياسات التي أصدرها البنك الدولي حول البلاد خلال الأسابيع الماضية، مما يعني أنه ثمة قرابة 9 ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر.
يضاف هؤلاء إلى قرابة مليوني عراقي نزحوا من مناطقهم الأصلية خلال السنوات بين 2014 و2018، لم يعد منهم إلا أعداد يسيرة، وهم كانوا بالأساس أبناء أكثر مناطق العراق فقرا، الريف الأوسط والغربي من البلاد.
ولم تحدد الحكومة العراقية وقتا زمنيا لتحقيق مراميها من القانون الأخير الذي رفعت مسودته إلى البرلمان، كذلك لم يحدد البرلمان الوقت المتوقع لإقراره، لأن قضية التسول، مثل باقي القضايا التفصيلية المتعلقة بأشكال حياة العراقيين اليومية، نادرا ما تلقى اهتماما من قبل القوى السياسية العراقية، وفق مراقبين.