كانت أراضي قرى عدة في محافظة ديالى شمال شرق العاصمة بغداد تعتبر إلى وقت قريب أخصب مناطق العراق وسلته الغذائية، لكن مع شح المياه المتفاقم تبدل الوضع كليا.
ومن بين هذه القرى كولى جو والحبيب والإصلاح وجلولة، المحاذية لنهر صغير يطلق عليه "سيروان" أو نهر ديالى" الذي يعد أحد روافد نهر دجلة.
وفي هذه المناطق، كانت آلاف الهكتارات من البساتين تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعدما كانت خضراء يانعة، والسبب "شح المياه" المتفاقم في العراق.
وأبرز مثال على ذلك محافظة ديالى السهلية، التي كان العراقيون يشبهونها بدلتا النيل، حيث كانت الآلاف من سواقي الأنهار المتدفقة من سلسلة جبال زاغروس الإيرانية، كان فيها نحو نصف مليون هكتار من البساتين المروية، حسبما أكد مصدر من مجلس محافظة ديالى لموقع "سكاي نيوز عربية".
مأساة محافظة ديالى، التي تُسمى "بلاد البُرتقال" في العراق، مُهددة بأن يجتاحها تصحر تام خلال أقل من 10 سنوات، بما ينطوي ذلك على دفع الغالبية العُظمى من سُكانها، الذين يقاربون مليوني نسمة نحو الهجرة إلى مناطق أخرى في العراق، بكل ما يعني ذلك من ضغوط على السكن والخدمات.
والوضع المائي في بقية أنحاء العراق ليس بأفضل حال، إذ تراجعت كميات الماء المتدفقة من نهري دجلة والفرات والمئات من فروعها المتدفقة من تركيا، إلى جانب العشرات من الأنهار الأصغر حجما القادمة من إيران.
وتلبي هذه الأنهار 80 بالمئة من حاجات العراق المائية، وتراجع مستويات تدفقها إلى من دون النصف، سيعني مباشرة حرمان 40 بالمئة من الأراضي الزراعية والمواطنين العراقيين من المياه الصالحة.
ويقول الخبير المائي العراقي، قاصد الجمولي، في حديث لموقع "سكاي نيوز عربية" إن أسباب الحالة العراقية الراهنة إلى ثلاثة مستويات.
أسباب الأزمة
وأوضح الجمولي "ثمة أولاً التغيرات المناخية العالمية، فالعراق خلال سنواته الخمسة عشرة الأخيرة شهد منخفضات جوية أقل بكثير من المنخفضات التي شهدها خلال العقد والنصف الذي سبقه، وتالياً فأن المياه التي كان عراق يستطيع تجميعها من ضمن أراضيه، خصوصاً من إقليم كردستان العراق، صارت أقل بكثير".
وتابع: "المسألة الأخرى سياسية، فالعراق لم يعد يستطيع أن يفرض على تركيا وإيران قوانين ومفاهيم الأنهار القارية، التي تُطبق على كل الأنهار المشتركة بينه وبين هذين البلدين، اللذين صارا يعتبران الأنهار المشتركة بمثابة أنهار وطنية لهما، ويقطعان ويقللان من حصص العراق العادلة من مياه تلك الأنهار".
أما السبب الثالث، فهو أن الاستراتيجية المائية العراقية دون أفق تماماً، فخلاف إقليم كردستان العراق، لم تبنِ الحكومة المركزية العراقية سداً واحداً خلال العقد الماضي كاملاً".
يشترك العراق بحوالى 50 نهراً مع بلدي الجوار تركيا وإيران، أغلبيتها مع الأخيرة، لكن الأنهار القادمة من تركيا تضخ كميات تفوق الـ40 نهراً مشتركاً بين العراق وإيران.
دولتا الجوار استخدمت خلال السنوات العشرة الأخيرة سياسات استراتيجية لتخزين مياه السواقي المنهمرة من جبالها، وإعادة توزيعها في الداخل، على حساب جريانها التقليدي نحو الأراضي العراقي السهلية.
وهذا ينطوي على مخاطر جسيمة على العراق، فأراضيه الزراعية شرق البلاد وعلى امتداد نهري دجلة والفرات ستصبح مهددة بالتصرح.
ويتوقع الخبراء أن تتراجع قدرة العراق على إنتاج "الطاقة الكهربائية النظيفة"، فأكثر من 15 سداً عراقياً سيخرج عن الخدمة فعلياً، بسبب شح المياه.
لكن الأمر الأكثر تأثيراً سيكون في الزيادة التامة لمستويات الملوحة والتصحر ضمن الأراضي العراقية، فالخبراء العراقيون يتوقعون أن تشهد مناطق جنوب العراق تصحراً متسارعاً خلال السنوات القادمة، بما في ذلك مناطق الأهوار التي كانت خصبة للغاية.
كذلك، فإن الألسن الملحية المتأتية من الخليج العربي نحو شط العرب، يُتوقع لها أن تتجاوز مدينة البصرة عما قريب.
الباحث في علم الاجتماع السياسي العراقي، خلدون نقرة، شرح في حديث مع موقع "سكاي نيوز عربية" التداعيات المباشرة لشح المياه.
ويقول: "سيدفع هذا الجفاف السريع بملايين القرويين للهجرة نحو المُدن الكُبرى، فتقديراتنا الأولي تقول بأنهم سيكونون بقرابة 5 ملايين مهجر ريفي خلال الأعوام الثلاثة القادمة. هذه الكتلة السكانية الكبيرة لن تتمكن من الحصول على أي شكل من الحياة الكريمة وفرص العمل والرعاية الصحية والاجتماعية، مما سيشكل بؤراً للعشوائيات ومُدن الصفيح، ومادة سهلة للقوى السياسية المُتطرفة، التي ستستفيد من الأوضاع الخاصة لهؤلاء المهجرين".
ويضيف "ستتضخم بالذات العاصمة بغداد والمدن الجنوبية من البلاد، حيث يُتوقع أن تتجاوز أعداد المُدن المليونية في العراق العشرة خلال هذا العقد، حيث هي 4 فقط الآن. وهذه المُدن غير مجهزة أبداً بالبنية التحتية الخدمية، ولا بالمؤسسات الرديفة، الصناعية بالذات، القادرة على استيعاب ملايين المتدفقين إليها".
وختم: "الاقتصاد العراقي يقوم على مزيج من الريع النفطي والزراعة المحلية، وباختفاء القطاع الزراعي، سيكون على النفط تلبية حاجة 40 مليون عراقي، وهو أمر مستحيل تماماً بكل الحسابات، ويهدد بتحويل العراق إلى دولة فاشلة، تخوض حروباً أهلية داخلية".