وصلت أزمة تشكيل حكومة جديدة في لبنان إلى طريق مسدود، وذلك بفعل الخلافات السياسية المحلية المستعرة، التي حالت على مدى أكثر من ثمانية أشهر متتالية دون تشكيلها.
وتتمثل المهمة المبدئية للحكومة الموعودة بإطلاق مسار لوقف الانهيار الاقتصادي والمالي في لبنان، وإعادة إعمار الأجزاء التي دمرها انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس الماضي.
ويمكن القول إن الرئاسة الفرنسية أخذت على عاتقها منذ زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى بيروت بعد يومين من انفجار المرفأ، ثم في مطلع سبتمبر الفائت، إطلاق مبادرة (اقتصادية – مالية – إصلاحية) للحيلولة دون انهيار لبنان بشكل تام.
واشترطت المبادرة للبدء بعملية الإنقاذ تشكيل حكومة تعمل على تنفيذ بنود المبادرة الفرنسية، بدءا من التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية مثل"صندوق النقد الدولي"، والدول المعنية العربية والأجنبية القادرة على مساعدة لبنان، فضلا عن إطلاق عملية إصلاح لمؤسسات الدولة التي نخرها الفساد والاهتراء على مدى العقود الماضية.
كذلك يمكن القول إن الرئاسة الفرنسية، وبعد شهور طويلة من الوساطات المضنية بين مختلف القوى السياسية اللبنانية المعنية بتشكيل الحكومة، والممثلة عبر كتلها في مجلس النواب، وصلت إلى استنتاج مفاده أن الاعتماد على "حسن نوايا " القوى السياسية اللبنانية للدخول في مسار إنقاذي يحتاجه لبنان والشعب اللبناني، لم يعد يكفي.
وساطة فرنسية
وسقطت جميع الوساطات التي قادتها باريس عبر ما سمي جوازا "خلية لبنان" في قصر الرئاسة الفرنسية "الإليزيه"، وسقطت معها كل الآمال في التعجيل بتشكيل حكومة لبنانية جديدة برئاسة الرئيس المكلّف سعد الحريري، الذي سبق أن قدم في التاسع من ديسمبر تشكيلة حكومية مكتملة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي رفضها بذريعة أنها لا تراعي التوازنات الطائفية.
وحسب قراءة عون، فإن رئاسة الجمهورية يحق لها أن تشارك في اختيار جميع الوزراء وانتقاء وزراء تابعين مباشرة لخطه السياسي، فيما يرى الحريري أن الحكومة يجب أن تتشكل من وزراء مستقلين عن القوى والأحزاب السياسية، وأنه يحق لرئيس الجمهورية أن يختار بعضهم ضمن المعايير الآنفة الذكر، لا أن يشارك في اختيارهم جميعا.
وبعد 8 أشهر، على إطلاق مبادرة ماكرون، وصل الفرنسيون إلى استنتاج مناقض لرأيهم السابق الذي كانوا يقابلون به سياسية العقوبات التي انتهجتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في لبنان، وذلك عندما أنزلت في الثامن من سبتمبر 2020 عقوبات سياسية بتهمة التعامل مع "حزب الله" وتسهيل تمويله بحق وزيرين لبنانيين ينتميان الى كتلة "حركة أمل" البرلمانية التي يرئسها رئيس مجلس النواب نبيه بري، هما وزيرا المالية والأشغال العامة السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر.
ثم عادت وألحقتها في السادس من نوفمبر بعقوبات تحت قانون "ماغنيتسكي" المتعلق بالفساد على رئيس "التيار الوطني الحر" و صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، الوزير السابق جبران باسيل.
وكانت وجهة نظر الفرنسيين الذي كانوا يدفعون بمبادرتهم الإنقاذية في لبنان إلى الأمام أن العقوبات الأميركية بحق قيادات سياسية لبنانية غير مفيدة ولها مفاعيل عكسية.
وبعد خروج الرئيس دونالد ترامب من البيت الأبيض وحلول الرئيس جو بادين مكانه، ومعه إدارة تحمل مقاربات مختلفة لملفات المنطقة، لا سيما الملف الإيراني، ومع أن باريس رأت في مجيء بايدن إلى الرئاسة الأميركية عاملا إيجابيا أعاد الاعتبار للعلاقات بين واشنطن وباريس، كما أعاد تفعيل التنسيق بين البلدين في العديد من الملفات الدولية بينها لبنان، فإن الملف اللبناني لم يشهد تقدما في الاتجاه الذي أملته باريس.
واستمر التعطيل على مستوى تشكيل الحكومة، ولم تفلح جهود الرئيس الفرنسي في دفع القيادات اللبنانية إلى تقديم تنازلات لتسهيل ولادة الحكومة التي كان المجتمع الدولي ولا يزال يرى أنها المعبر الإلزامي لأي عملية إنقاذ اقتصادية – مالية – إصلاحية للبنان المتهاوي.
باريس تفكر باستراتيجية العقوبات
ومع مرور الوقت بدأ المراقبون يرصدون منذ شهر فبراير الماضي كلاما مصدره أوساط الرئاسة الفرنسية يشير إلى أن فرنسا بدأت تفكر جديا بأن القيادات اللبنانية المعنية بتشكيل الحكومة الجديدة ليست على قدر المسؤولية، وبأنها تسهم بخلافاتها في إطالة أمد الأزمة وتعميقها، وتمنع من خلال سلوكياتها إنقاذ لبنان.
ومنذ ذلك الوقت بدأت "خلية لبنان" في الرئاسة الفرنسية تسرب أخبارا عن أن باريس التي كانت تعارض فكرة العقوبات، بدأت تفكر جديا في إنزال عقوبات بحق عدد من القيادات اللبنانية المعرقلة لتشكيل الحكومة، فضلا عن عدد آخر تحوم حولهم شبهات فساد، ومعهم رجال أعمال يرتبطون معهم بشراكات.
وفي السادس من أبريل الحالي، صرح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، وهو في طريقه لحضور اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوربي، أنه سيحث دول أوروبا على مساعدة لبنان، فيما ذكر دبلوماسيون فرنسيون وغربيون في اليوم ذاته أن فرنسا مستعدة الآن، وبعد جمود مستمر منذ شهور لبحث احتمال فرض عقوبات على مسؤولين لبنانيين، سواء على مستوى الاتحاد الأوربي أو على المستوى الوطني (الفرنسي).
وبهذا انطلق البحث الجدي عن تحديد المسؤولين اللبنانيين المستهدفين بالعقوبات الفرنسية – الأوروبية ، إضافة إلى حزمة العقوبات المتوقع إنزالها بحقهم.
وفي باريس تكثف العمل لتحديد الأشخاص الذين ستطالهم العقوبات بتهمة عرقلة تشكيل الحكومة، وهم في الغالب من محيط رئيس الجمهورية (في المقدمة جبران باسيل)، الذين تتقاطع المواقف الخارجية عند تحميلهم مسوؤلية منع تشكيل حكومة جديدة.
ومن ناحية أخرى تكثف العمل على تحديد حزمة العقوبات الفرنسية والأوروبية.
وفي هذا السياق تحتاج العقوبات الأوروبية إلى إطار قانوني وسياسي، وإلى موافقة الدول الــ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
ويمثل هذا ما يسعى إليه الفرنسيون الذين يريدون للعقوبات أن تكون أوروبية لكي تكون ذات فاعلية.
وفي الوقت عينه يريد الفرنسيون، حسب ما يشير أعضاء في "خلية لبنان" في قصر الرئاسة الفرنسية "الإليزيه"، أن تكون العقوبات هادفة فتفتح الباب أمام ولادة حكومة ذات صدقية ليتعامل معها المجتمع الدولي، لا أن تؤدي إلى مزيد من العرقلة.
وعلى صعيد آخر، تعكف لجنة خاصة ضمن الاتحاد الأوروبي في بروكسل على دراسة نوعية العقوبات وشكلها لتحديدها، فضلا عن الإطارين السياسي والقانوني، لكي يتم التوافق عليها بسرعة.
ويمكن القول إن أولى العقوبات الفرنسية – الأوروبية بحق مسوؤلين لبنانيين، ستكون بمنع السفر إلى دول الاتحاد الأوروبي، وإطلاق عملية تقصي قضائية عن الأصول المالية والعقارية والتجارية في دول الاتحاد لعدد من المسوؤلين المشتبه بهم بالقيام بأعمال فساد في لبنان.
ورغم صعوبة التوصل إلى إجماع أوروبي بشأن العقوبات، فإن الاعتقاد السائد في الأوساط المراقبة، أن كبريات العواصم المعنية بالملف اللبناني تجمع في ما بينها نظرة شديدة السلبية شطر مجمل الطبقة السياسية اللبنانية المتهمة بإيصال البلاد إلى الهاوية التي وقعت فيها.
ومن هنا تأتي جدية الحديث عن قرب صدور عقوبات ضد قيادات لبنانية، تؤكد مصادر فرنسية رفيعة المستوى أنها صارت على نار حامية، وأن السباق الآن هو بين ولادة الحكومة والعقوبات الآتية قريبا جدا.