في حي الدورة وسط العاصمة العراقية، بغداد، يُمكن للعابر أن يرى عشرات الأسماء واللوحات الإعلانية على المحال التجارية ذات "الهوية المسيحية".
وكانت المنطقة، حتى قبل 15 عاما فحسب، كانت ذات غالبية مسيحية، يسكنها الكلدان والآشوريون والأرمن المسيحيون، وتضم كنائسهم الستة الأكثر شُهرة، التي من المتوقع أن تحظى بزيارة بابا الفاتيكان فرنسيس بعد أيام قليلة.
كذلك كانت تلك المنطقة بمثابة سوق عمومي ومكان لاصطياف جميع سُكان بغداد، فنهر دجلة كان يحيط بها تقريباً من كل الجهات، ومنها تأتت تسميتها بـ"الدورة".
في ظلال كنيسة ماربهنام للسريان الأرثوذكس، في منطقة الميكانيك من ذلك، يجلس عدد من كِبار السُن، يتذكرون ويرون لموقع "سكاي نيوز عربية" مشاهدهم عن هذه المنطقة البغدادية، التي صارت شبه خالية، باستثناء قلة قليلة الذين لم يجدوا "منفذاً للفرار"، بحسب "العم بطي"، كما يسمونه في المنطقة.
ويقول: "لا شيء للمسيحيين في هذه البلاد. لا في الدولة ولا السوق ولا الجيش ولا الأحزاب، لذلك يهرب الناس لأنهم يخافون من كل شيء".
نسخة مصغرة فحسب
تتشابه الأحوال العامة لمسيحيي العراق مع أحوال مسيحيب حيّ الدورة البغدادي، فقد كانوا الطبقة المجتمعية الحاضرة بقوة في المجالين الاقتصادي والوظيفي جهاز الدولة قبل العام 2003.
وكانوا يشكلون قرابة 7% من مجموع سكان العراق، ولهم قيادات عليا في النظام السياسي. فصاروا بعد ذلك التاريخ دون 1%، بعدما تراجعت أعدادهم من قرابة مليون ونصف مسيحي عراقي، إلى نحو ربع مليون فحسب.
وهُمش المسيحيون في المشاركة الفعلية في مؤسسات الدولة ومراكز القوة الاقتصادية، بسبب التحاصص الطائفي وبين القوى السياسي الكبرى لتلك المكاسب.
الفرق بين النصوص والواقع
شكلياً، يحفظ الدستور العراقي حقوقا متساوية لجميع المواطنين، بصرف النظر عن أديانهم وقومياتهم، حسب الناشطة الحقوقية بسمة خاجيك في حديثها مع مع موقع "سكاي نيوز عربية"
وتضيف: "لكن التنفيذ الفعلي في العراق بعيد تماماً عن كل ذلك. فالحقوق التي يمحنها الدستور لأية جماعة أو كتلة سكانية عراقية صورياً، يحتاج إلى قوة فعلية على الأرض لتحصيل تلك الحقوق، بالذات إلى القوى الجماهيرية والفصائل المسلحة، وهو ما يفتقده المسيحيون العراقيون تماماً، على عكس باقي الجماعات العراقية الكُبرى".
سياسياً، يضمن الدستور العراقي خمسة مقاعد برلمانية لمسيحي العراق، ككوتا قطعية، بمعدل مقعد واحد في كل من محافظات بغداد الموصل دهوك أربيل وكركوك.
لكن تلك المقاعد هي أقل من 1.5% من مقاعد البرلمان العراقي، في وقتٍ كانت نسبة المسيحيين العراقيين كانت أكثر من 6% من مجموع السكان حينما تم إقرار الدستور العراقي عام 2005.
كذلك كان المسيحيون يحصلون على منصب وزاري في الحكومات العراقية الأولى التي تأسست عقب العام 2003، وإن كانت وزارات هامشية، لكن حتى ذلك تم تجاوزه خلال الحكومات المركزية الأخيرة.
لم تستطع المقاعد البرلمانية المسيحية أن تحقق قيمة مضافة في البرلمان ، حسبما يقول الباحث أنطوان سعدي.
فالقوى السياسية الكبرى في العراق، من غير المسيحيين، استطاعت أن تختلق مرشحين مسيحيين موالين لها،ليدافعوا تالياً عن مصالح تلك القوى السياسية، لا عن مصالح وحقوق المسيحيين العراقيين، كما يقول سعدي لموقع "سكاي نيوز عربية".
ثمة قوى سياسية "مسيحية" عراقية تاريخية، وإن كانت تعتبر نفسها أحزاباً قومية، تدافع عن حقوق أبناء القومية الآشورية والكلدانية والسريانية في العراق، لكنها فعلياً صارت بعد العام 2003 أحزاباً دينية مسيحية، بسبب الانقسامات والصراعات الدينية والطائفية في البلاد.
كانت الحركة الديمقراطية الآشورية الكلدانية السريانية "زوعا" أكبر تلك التنظيمات السياسية، التي كانت تنظيماً خاض كفاحاً مسلحاً ضد الأنظمة القومية التي حكمت العراق، وكانت جزء من قوى المعارضة العراقية، وكانت فاعلة سياسية بقوة في السنوات الأولى التي أعقبت سقوط النظام العراقي السابق.
نزوح من مناطقهم التاريخية
لكن قوة وحضور الحركة تراجعت مع تراجع نسبة المسيحيين العراقيين، ونزوحهم عن مناطقهم التاريخية، بالذات من العاصمة بغداد ومدينة الموصل، حيث أحدثت "قوى حُكم الأمر" الواقع في تلك المنطقتين تيارات مسيحية شكلية، مثل تيار بابليون، الذي يُعتبر فصيلاً مُسلحاً ضمن تشكيلات الحشد الشعبي في تلك المناطق.
المجلس الشعبي الكلداني الآشوري السرياني، التنظيم السياسي المؤلف من عدد من القوى الآشورية/المسيحية العراقية، أنما يُعتبر التنظيم المسيحي الأقوى في إقليم كردستان العراق، وهو ذو مشروع سياسي للتحالف السياسي مع القوى السياسية في إقليم كردستان، التي يراها المجلس المكان الوحيد في العراق الذي يستطيع مسيحيو العراق حماية أنفسهم.
في المشهد الاقتصادي، يرى الباحث أنطوان سعدي بأن المسيحيين لن يعودوا إلى سابق عهدهم، حيث كانوا بمجملهم من الطبقة ما فوق الوسطى.
فالمسيحيون، حسب سعدي، كان يشغلون تلك المكانة لأنهم كانوا الأفضل تعليماً ضمن المجتمعات الأهلية العراقية، لذا كانوا في قيادات المؤسسات البيروقراطية والخدمية في البلاد، كذلك لأنهم كانوا سُكان مركز المُدن، مما كان يمنحهم أفضلية في العمل التجاري.
لكن العمل الاقتصادي في العراق اليوم مرتبط وتابع للمجال السياسي، حيث المسيحيون العراقيون مهمشون تماماً من ذلك المجال، وفقا لسعدي.