ووري الثرى، الأربعاء، في الجزائر جثمان أسقف الجزائر السابق الفرنكو جزائري هنري تيسيي، الذي وافته المنية بمدينة بليون في فرنسا عن عمر ناهز 91 عاما، إثر إصابته بجلطة دماغية في الأول من ديسمبر الجاري.
ونقل النعش إلى الجزائر مغطى بالعلم الجزائري، الثلاثاء الماضي، تنفيذا لوصيته، في دليل على محبته لهذا البلد الذي أخلص له منذ أن عين راعيا للأبريشية بالجزائر عام 1955.
وكان في استقبال الجثمان، لحظة وصوله إلى الجزائر عدد من الشخصيات الرسمية، على رأسهم وزير الشؤون الدينية والأوقاف يوسف بلمهدي.
وقال وزير الشؤون الدينية: "إنه رمز من رموز الوطنية الجزائرية، أحب الجزائر وأحبه الجزائريون لأنه واحد منهم".
وتصنف قصة تيسيي مع الجزائر في خانة واحدة من أهم رسائل السلام والمحبة عبر العالم، وقد ظلت الجزائر تنظر إليه كأحد أبنائها المخلصين، لهذا منحته جنسيتها عام 1966 نظير الخدمات التي قدمها خاصة في إطار الحوار بين الديانات.
وكتب الوزير الأول الجزائري عبد العزيز جراد على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: "ارتبط بالجزائر الوطن، وأحب الجزائريين الذين عاش معهم طيلة حياته".
واستطرد بالقول: "نعرف عنه شغفه بتاريخ الجزائر، هو مكتشف مذكرات الأمير عبد القادر وظل مدافعا عن قيم التسامح والتعايش وحوار الأديان".
وقد حضر مراسيم الحفل الجنائزي لأسقف الجزائر السابق في كاتدرائية السيدة الإفريقية بالجزائر العاصمة عدد من الشخصيات الوطنية وأصدقاء الراحل، من بينهم شيخ الطريقة العلاوية وسفراء وباحثين.
وقال سفير الجزائر السابق في إيطاليا عبد الحميد سنوسي بركيسي: "كان تيسيي يحب الجزائر والجزائر كانت تحبه، كان رجلا عظيما ويحب الحوار بين الدين، واليوم الجزائر ترجع له ذلك الحب".
وقالت رئيسة المركز الأسقفي للدراسات والأبحاث في الجزائر شانتال فاتكالك لـ"سكاي نيوز عربية": "لقد اختار العيش دائما إلى جانب أشقائه الجزائريين، وهو مثال للشجاعة والأخوة، ولم يفكر أبدًا في مغادرتها حتى عندما عرض عليه ذلك الاختيار خلال العشرية السوداء".
وصيته الدفن
وأكد الأمين العام للمجلس الإسلامي الأعلى الباحث بوزيد بومدين، أن الراحل أوصى بدفنه في الجزائر لمحبته لهذا البلد الذي عاش فيه عمرا طويلا.
وقال بومدين لسكاي نيوز عربية: "التقيت تيسيى عدة مرات وقد حدثني عن حلمه بأن يدفن في الجزائر".
وتحدث تيسيىي عن حبه للجزائر عدة مرات، وأورد ذلك في كتبه التي ألفها طيلة حياته (ألف 5 كتب تحدث في معظمها عن الجزائر والمسيحيين).
وفي كتابه "رسائل من الجزائر"، الذي صدر عام 1989 عن دار بايارد سنتوريون الفرنسية قال تيسي: "لقد رفض أغلبية السكان الأوروبيون فكرة العيش معا، ولكنني قررت البقاء رفقة عدد من الأوروبيين الذين أحبوا الجزائر، ورغم الاختلاف الثقافي والديني ورغم موقف الكنسية المنحاز قبل الاستقلال، فقد فضلنا البقاء في الجزائر وبفضل حماية الدولة الجزائرية ونوعية العلاقات الإنسانية التي كانت تنمو يوميا في الأحياء والشوارع مع المسلمين استمر بقاؤنا كل هذا الزمن الذي نمت فيه فكرة العيش معا".
حوار الحياة
وسنة 1967 أسس تيسيي رفقة الكاردينال دوفال ومجموعة من المسيحين بالجزائر "المركز الأسقفي للدراسات والأبحاث"، وتبنى المركز فكرة احترام وتقدير البيئة البشرية الثقافية الدينية التي تعيش الكنائس المحلية فيها والاهتمام بالإسلام في أبعاده الدينية والروحانية، في إطار حوار الحياة بعيدا عن التبشير.
وبين عامي 1994 و1996 قتلت الجماعات المتطرفة عددا من أصدقاء تيسيي في الجزائر، من بينهم بيار كلافيري، وأسقف أبرشية الروم الكاثوليك في وهران.
ورغم رسائل التهديد التي كان يتلقاها تيسيي من الجماعات المسلحة التي كانت تنشط في الجزائر خلال الفترة من 1990 إلى 1999، فإنه ظل حازمًا في مواقفه المدافعة على فكرة العيش معا ورفض مغادرة الجزائر، وأصر على أن يكون رفيقًا دائمًا لجميع الجزائريين.
وقال الباحث الجزائري اليامين بن تومي، المختص في قضايا النقد والفكر، لسكاي نيوز عربية: "هنري تيسيي شخصية مرموقة في تاريخنا الجزائري، دافع عن الحوار وفكرة تأسيس مجتمع جزائري متعدد وثري ومتراحم".
وأضاف بن تومي: "كان شخصية متوازنة غلّب القضايا الوطنية متجاوزا كل الجروح الوطنية من أجل تخريج مجتمع متصالح بين فئاته، وهو رجل وقف مع الجزائر في أيامها الشديدة حاملاً رسالة سلام دائم".
ولد هنري تيسيي في 21 يوليو 1929 في ليون لأسرة مكونة من ثمانية أطفال، وقد كان والده جنديا انضم للجنرال ديغول عام 1940، وأرسل إلى المغرب عام 1946، ثم إلى الجزائر عام 1947.
وبين عامي 1947 و1955، التحق هنري تيسيي بمدرسة الكرملي في باريس ودرس اللغة العربية في مدرسة خاصة للغات الشرقية، ورُسم لاحقا كاهنًا لأبرشية الجزائر في 24 مارس 1955.