بعد تصويت الناخبين على مشروع الدستور الجديد بنسبة 66.80 بالمئة تكون السلطة والرئيس عبد المجيد تبون، قد كسبا أول تحدي منذ رئاسيات 2019 ديسمبر، وهو الرهان الذي يضعها الآن أمام محطة الانطلاق في بناء لبنة ما بات يطلق عليه عنوان "الجزائر الجديدة".
وفي بلد يتجاوز فيه معدل الشباب 80 % (بحسب تصريحات الوزير الأول عبد العزيز جراد)،تزداد أهمية التوجه لفهم عقلية تلك الفئة من المجتمع، الذين يعلقون أحلاما كبيرة في التغيير، خاصة بعد حراك 22 فبراير،وذلك على أرض تتسارع فيها الأحداث السياسية والاقتصادية.
الإحساس في شوارع الجزائر
لوصف شعور الجزائريين خاصة منهم الشباب بعد التعديلات الدستورية، نقوم بجولة في أرجاء العاصمة، ومن ساحة الشهداء أسفل حي قصبة العتيق المطل على خليج الجزائر، نبدأ رحلة البحث عن أحلام الشباب.
وللقاء هؤلاء نراقب عيون الذين اختاروا الجلوس على الأرصفة لسنوات طويلة، وقد باتت تلك المساحات، المكان الوحيد الذي يرتاحون فيه هربا من واقع مؤلم، ومنهم أحمد ( 24 عاما)،عندما اقتربنا منه كان ينظر إلى زرقة البحر، وفي عينه حيرة تفجر الأسئلة، ومزاجه يبدو معكرا هذا الصباح.
يرد أحمد بابتسامة اللامبالي :"ما أكثر القوانين وما أقل تجسيدها على الواقع"، ويؤكد أن قصته اليوم هي جزء من حكايات العشرات من أبناء جيله الذين يستيقظون على شغف الرحيل، وقد بات يحفظ خارطة العالم أكثر من طريق عودته إلى البيت.
هكذا يثير أحمد الأسئلة التي تجعله متشائما، وهو يلقي بعينه إلى الخلفية حيث يتواجد كشك وضع صاحبه عناوين الجرائد الصباحية التي تبارك الدستور الجديد، ويقول لـ سكاي نيوز عربية:"عندما تنتهي "الشيتة" (الشيتة كلمة بالعامية الجزائرية تعني التملق للمسؤولين) سنصبح على خير".
"الشيتة" وغيرها من الكلمات العامية، ولدت خلال العهد القديم، وهي تعكس واقع الممارسة السياسية لعقود من الزمن، فهي كلمات شعبية بسيطة لكنها بدلالات اجتماعية وثقافية وسياسية عميقة جدا.
في الأثناء، يقاطع الحديث شاب آخر لم أطلب إسمه، كان يجلس غير بعيدا منا :"لقد حلمت بالدراسة في الخارج، وحلمت بأن أعود لخدمة بلدي، لكن الوضع هنا مرهون بالمعريفة (كلمة عامية أخرى تعني المحاباة) لهذا لم أستطع فعل أي شيء من هذا القبيل أو ذاك".
هؤلاء هم جيل لم يعرف في حياته رئيسا آخر غير الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وهو بالنسبة لهم رئيس بنى لمدة عشرين عاما نظاما يرتكز على فكرة المصالح المتبادلة بين الأطراف داخل دواليب الحكم وليس على فكرة بناء مصلحة الدولة، وهو الأمر الذي يفسر تشبث رموز النظام السابق ببوتفليقة حتى آخر لحظة عبر محاولة تمرير العهدة الخامسة بكل الطرق، فرغم أن الرجل كان مقعدا، عاجز عن الكلام، إلا أن المحيطين به سواء من رجال السياسة أو المال كانوا ينظرون إليه على أنه الشخصية الجامعة لمصالحهم الضيقة.
كلمة دمرت الاقتصاد
وبين الإشارة والعبارة وقفت كلمة "الشكارة" (عبارة عامية جزائرية تشير للرشوة) عائقا أمام تحقيق العديد من الشباب لأحلامهم ومشارعيهم البسيطة، وهي ذات الكلمة التي تقود اليوم جلسات محاكمة أبرز رموز نظام الرئيس السابق، في محاولة للكشف عن حجم الفساد الذي استشرى في البلاد لعقدين من الزمن.
يجمع الخبراء على أن "الشكارة" تسببت في تشويه الحياة السياسية في الجزائر، وكبدت الإقصاد الوطني خسائر كبيرة تجاوزت ما قيمته الألف مليار دولار، كما يقول المحامي دهلوك زكرياء الذي تأسس في القضية كوكيل القضائي للخزينة العمومية :"ألحقت "الشكارة" ضررا معنويا بحزب جبهة التحرير الوطني وأساءت إلى سمعته باعتباره مفجر الثورة والوجه السياسي للجيش الشعبي الوطني".
نترك تلك الساحة التاريخية وما تحمله من قصص ونتجه إلى ساحة البريد المركزي ببلدية الجزائر الوسطى، وهي فضاء خصب للنقاشات السياسية حيث يلتقي الشباب العابر بهموم السياسية، ما يجعلها مساحة مناسبة للحديث بصوت عالي في كل القضايا.
من يعرف المكان يعرف جيداً أن مذاق القهوة هناك لا يحلوا دون تشريح لأخر الأخبار، والدستور أبرزها، في هذا الفضاء المفضل للناشطين السياسيين والمثقفين والصحافيين والباحثين عن فرصة أولى للولوج إلى كواليس الحياة السياسية في الجزائر العاصمة.
وعزيز "26 عاما"، واحد من هؤلاء الشباب، ينزل كل يوم إلى تلك الساحة للقاء أصدقاءه والدردشة في مستقبل البلاد، وأحيانا يفتح النقاش على مشروع ثقافي بسيط يريد التأسيس له.
لكن طموحات الشاب سرعان ما تتحول إلى كابوس عندما يقرر الخروج بها إلى الواقع ولقاء المسؤولين، ويقول عزيز لـ"سكاي نيوز عربية":"الإدارة تأسست على فكرة ربح الوقت، فمنطق التسيير يعتمد على عبارة "أرجع غدوة"(كلمة بالعامية الجزائرية تستخدم للتماطل)".
ووفق تلك القاعدة كل شيء يؤجل وهو الأمر الذي يأمل عزيز ورفاقه في أن يتغير، وقد طرح حلولا:"لماذا كل هذه الأكوام من الأوراق والمستندات التي تطلباها الإدارة، الإصلاح الحقيقي لا بد من أن يأتي بالرقمنة والإنترنت هي الحل ".
وتطرح السلطة مشروع رقمنة الإدارة كخيار إستراتيجي يعول عليه لتطوير خدمات جديدة والاستثمار في ثروات مكملة للنفط، تكون قابلة للتصدير واستحداث القيمة المضافة، لاسيما من خلال المؤسسات المصغرة والناشئة التي تعد من مقومات الاقتصاد الجديد.
ومن زاوية أكاديمية يشرح أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة الجزائر سابقا ناصر جابي الأمر مشيرا إلى أن استمرار تلك الممارسات في خطاب السياسيين خلق فجوة كبيرة بين السلطة والشعب وخاصة الشباب، هذا الأخير الذي يبدو مجروحا بسبب تلك الكلمات التي يتم ترددها أحيانا من باب النكتة،و قال جابي لـ"سكاي نيوز عربية:"بعض الأحزاب القديمة تصر على ممارسة تلك الأمور وهو ما عصف بكل مبادرات التغيير، فالعقلية القديمة هي جدار أحلام الشباب والأمر يحتاج إلى تغيير ذهنيات السلطة".
السلطة تدرك ذلك ولكن
ولا تنكر الطبقة السياسية تلك الحقائق، فالواقع اليوم بات يفرض على السلطة الاعتماد على خطاب جديد، والتوجه نحو المصارحة والابتعاد عن لغة الخشب وهو الأمر الذي تجسد في إعلان السلطة الوطنية لمراقبة الانتخابات للأرقام الحقيقة لنسبة المشاركة في الاستفتاء الشعبي، رغم أنها أرقام صادمة للسلطة لأنها لم تتجاوز نسبة ال23 بالمئة.
فالرهان الحقيقي هو تصحيح مسار الإرادة السياسية وتجسيد القوانين على أرض الواقع لبناء الثقة، كما يرى رئيس حزب صوت الشعب لمين عصماني أن تغيير تلك الذهنيات هو الحل والضامن الأساسي للنجاح في المرحلة القادمة.
وأكد عصماني لـ:سكاي نيوز عربية على ضرورة اخلقة العمل السياسي بطريقة حضارية، وقال:"نحن نعيش في فترة انتقالية كنا في الشرعية الثورية وأردنا بناء الدولة الوطنية وانحرفنا على مسار الثوار في بناء الدولة الحديثة، والآن الدولة المدنية يجب تبدأ بدولة القانون والتقسيم العادل لثروة البلاد ، ويجب الاستثمار في الجانب البشري".