تستمر في الجزائر جلسات محاكمة أبرز رموز نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، في محاولة حثيثة للكشف عن حجم الفساد الذي استشرى في البلاد لأكثر من 20 عاما.
ولعل الملفت للأنظار في القضية، إبلاغ المتهمين خلال المرافعات الأخيرة عن "أخطبوط مالي وإداري" متغلغل داخل دواليب الحكم، وتجلى ذلك عبر توجيه المتابعين قضائيا تهما ثقيلة لأسماء لاتزال تقبع خارج السجن، في خطوة وصفها البعض بربح الوقت وتعقيد المشهد، ما يعني أن المحاكمات قد تشهد أياما أو أسابيع أخرى من الإثارة والجدل.
ويبدو أن ملف الفساد المالي، لا يتعلق فقط بتهريب الأموال إلى الخارج، وإنما بالرشوة والاستغلال السياسي، وهو ما تحدث عنه أحد أبرز المتهين في قضايا الفساد النائب السابق بهاء الدين طليبة خلال جلسة محاكمته، مشيرا إلى الأرقام المالية الكبيرة التي كانت تدفع من أجل التأثير على سير الانتخابات التشريعية في عهد النظام السابق.
ويجمع خبراء القانون أن مسألة الحصر وتحديد مكان تواجد الثروات تعد واحدة من أعقد حلقات البحث عن الأموال المنهوبة، ولا يتعلق الأمر فقط بالأموال التي تم تهريبها نحو الخارج، بل بمصير الشركات والمؤسسات والعقارات التي حصل عليها المتهمون بطرق غير شرعية داخل الجزائر.
بين المصادرة والحجز التحفظي
ولم يخفِ الرئيس عبد المجيد تبون قناعته بأن الأمر يحتاج إلى وقت، وقد أكد ذلك منذ أول مرة تحدث فيها عن الأموال المنهوبة، ولدى ترشحه للرئاسة، تعهد بالمضي قدما نحو هذا الاتجاه، وقال إن "عملية التطهير ستتواصل لمدة طويلة لأن وضع رؤوس كبيرة في السجن لا يعني أن كل شيء انتهى. ما زالت هناك بقايا مرتبطة بها وهي كثيرة".
ويؤكد رجال القانون أن هناك خلطا كبيرا لدى الرأي العام، بين إجراء الحجز التحفظي والمصادرة النهائية للأملاك، فالخطوة الأخيرة تحتاج سنوات بعد بسط القضاء يده على الأموال المشتبه في مصدرها لمنع رموز نظام بوتفليقة المتواجدين حاليا في السجن من التصرف فيها، خشية تهريبها أو بيعها عبر التحايل إلى حين المصادرة النهائية.
وحتى كتابة هذه الأسطر، لم يصدر عن القضاء الجزائري قرار نهائي بمصادرة أموال المحبوسين، وهو الأمر الذي ينطبق على حالة المدير السابق للأمن الوطني عبد الغاني هامل المحكوم عليه بالسجن 18 عاما ومصادرة جميع أملاكه.
وأوضح المحامي عبد المجيد بيطام الذي يدافع عن الهامل وعدد من رجال الأعمال الآخرين، إن كل الأحكام الصادرة محل طعن، ومنها ما تتعلق بتجميد ممتلكات الهامل.
وقال بيطام لـ"سكاي نيوز عربية": "إن الوصول إلى الأحكام النهائية أمر يحتاج إلى 5 سنوات على الأقل".
ويؤكد المحامي الجزائري أن مهمة القضاء قبل المصادرة النهائية على ممتلكات المتهمين تحتاج للتفريق بين أملاكهم المكتسبة بطرق شرعية وتلك المكتسبة بطرق غير شرعية، خاصة أن هناك عددا من رجال الأعمال يتحدرون من عائلات ثرية.
وتقف مهمة استرجاع الأموال المنوهبة أمام حقائق تاريخية تعكس صعوبة الخطوة، ويربط مراقبون نجاح الجزائر في مسألة استرجاع الأموال المنهوبة من الخارج بواقع القضايا المشابهة التي فتحت في العديد من الدول العربية، والمتابعات التي طالت رموز الأنظمة بعد موجة ما سمي "الربيع العربي"، حيث لم تستطع أي دولة استعادة الأموال المنوهبة رغم تعهدات السياسيين.
مهام صعبة
وحاليا لا تزال الجزائر تواجه صعوبة في الحصول على بطاقة معلوماتية تحصر أملاك كبار المسؤولين خارج البلاد، بينما تشير التقارير إلى اعتماد المتهمين على التحايل والشركات الوهمية، التي تم تأسيسها بأسماء مستعارة وهي المسألة التي تحمل طابعا عالميا، تحيلنا إلى قضية "وثائق بنما" وما ترتب عنها من تحديات كبيرة واجهتها دول كبرى.
كما أن العديد من البنوك العالمية ترفض الكشف عن حسابات زبائنها، حفاظا على مبدأ السرية والخصوصية.
ولا يختلف اثنان في الجزائر على أن السلطات الحالية تملك إرادة سياسية حقيقية لاسترجاع الأموال المنهوبة، لكن حماس رجال السياسية في تقديم تطمينات ووعود، قد لا يخدمها في وقت تواجه فيه تحديات داخلية وخارجية بالجملة.
وينظر الشارع الجزائري إلى هذه المسألة تحديدا، بوصفها الحلقة المهمة التي بإمكانها إعادة جسور الثقة التي يسعى النظام الحالي لبنائها مع عموم الجزائريين.
ولا يوجد حصر لعدد المسؤولين المتابَعين في قضايا الفساد، كما لا تعرف بشكل دقيق كل الدول التي هُرّبت إليها الأموال المنهوبة.
ويرى المحامي نجيب بيطام أن الفساد الذي عرفته الجزائر طيلة 20 عاما، يحتاج إلى تضافر الجهد الدبلوماسي مع السياسي والقضائي لسد الفراغ القانوني في بعض الحالات مع الدول التي لا تربطها مع الجزائر إتفاقيات في هذا الإطار.
وكانت مجلة "لوبوان" الفرنسية، أكدت أن الجزائر تقدمت بطلب رسمي لباريس من أجل الحصول على بيانات حول أملاك المسؤولين المتورطين في الفساد.
وتسلط وسائل الإعلام المحلية الضوء على ملفات الفساد التي طالت الحيتان الكبيرة البارزة في نظام بوتفليقة، غير أن الأمر يتجاوز ذلك إلى قضايا معقدة عرفتها معظم ولايات البلاد الـ48، التي تم فتح العديد منها.
وجمع المتهمون ثرواتهم عن طريق إبرام صفقات عمومية مع الدولة من دون الوفاء بالالتزامات التعاقدية، عبر استغلال نفوذ موظفين عموميين، إلى جانب تحويل عقارات وامتيازات عن مقصدها الامتيازي، فضلا عن تبييض الأموال ومنح مزايا غير مستحقة وتمويل خفي للمؤسسات والمنظمات.
الأحكام ثقيلة
ويتم الترويج إلى أن قيمة الثروة المنهوبة تقترب من 300 مليار دولار، غير أن كل ما يتم تداوله يبقى مجرد تخمينات غير دقيقة، خاصة أن الفساد في الداخل لا يقل خطورة عن حجم الأموال المهربة، وفق مراقبين.
ويحذر خبراء الاقتصاد من خطوة مصادرة الأملاك والمؤسسات من دون مرعاة مصير العمال والموظفين وتأثير ذلك القرار على الاقتصاد الوطني، وقال الخبير الاقتصادي عبد الحفيظ كورتال إن الإجراءات المتخذة يجب ألا تؤثر على عمل المؤسسات وعدم دفعها نحو إعلان الإفلاس من خلال إجراءات قانونية، للحفاظ على المؤسسات وضمان استرجاع مبلغ القروض التي استفادت منها.
وقد تسببت الرشوة في تشويه الحياة السياسية في الجزائر، وكبدت الاقصاد الوطني خسائر كبيرة تجاوزت ما قيمته الألف مليار دولار، وقال المحامي دهلوك زكرياء الذي انخرط في القضية كوكيل قضائي للخزينة العمومية، إن قضايا الفساد ألحقت ضررا معنويا بحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم في عهد بوتفليقة، وأساءت إلى سمعته باعتباره مفجر الثورة التحريرية.
والأسبوع المقبل، يعيد القضاء الجزائري فتح ملف الفساد الخاص برجل الأعمال محيي الدين طحكوت المتابَع رفقة 57 متهما، من بينهم وزراء وولاة ومسؤولين في وزارة الصناعة وأملاك الدولة وديوان الخدمات الجامعية، فضلا عن قضية الإخوة كونيناف، ورئيسي الوزراء السابقين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال.
وأصدر القضاء الجزائري أحكاما في حق عدد من الشخصيات البارزة في نظام بوتفليقة، تراوحت بين عام مع وقف والنفاذ و18 سنة حبسا نافذا، مع إدانة المتهم الفار عبد السلام بوشوارب وزير الصناعة الأسبق بـ20 سنة حبسا نافذا.
ومن بين أبرز الأحكام، السجن 12 سنة مع النفاذ لأويحيى وسلال، والحكم الذي صدر ضد علي حداد أحد أبرز رجل الأعمال، بالسجن 18 سنة حبسا نافذا مع مصادرة أملاكه وتجميد أرصدته البنكية.