لم يتوقف الجدل في تونس منذ إعلان الرئيس قيس سعيد، عن تكليف وزير الداخلية هشام المشيشي، بتشكيل حكومة جديدة، خلفا لحكومة إلياس الفخفاخ، خاصة وأن المشيشي لم يكن من بين الأسماء التي رشحتها الأحزاب والكتل البرلمانية إلى الرئيس، ليشكل اختياره مفاجأة لم تكن متوقعة.
هشام المشيشي الذي شغل لفترة قصيرة منصب مستشار قانوني لدى قيس سعيد، والذي لا ينتمي إلى أي حزب ويعرف أكثر بأنه "تكنوقراط"، يحمل تكوينا قانونيا وإداريا، قال خلال مراسم تكليفه: "سأعمل جاهدا على تكوين حكومة تستجيب لتطلعات كل التونسيين، وتعمل على تحقيق مطالبهم المشروعة التي طال انتظارهم لها."
وفيما رحبت أغلب الأحزاب الممثلة في البرلمان باختيار المشيشي لتشكيل الحكومة الجديدة، انتظرت حركة النهضة يومين كاملين لتقدم موقفها من التكليف.
الاثنين، نقلت وكالة الأناضول التركية عن مصدر مطلع بالمكتب التنفيذي للنهضة، قوله إن "الحركة تتمنى النجاح للمشيشي في مهمته"، مضيفا أن الحركة تريد تشكيل "حكومة وحدة وطنية سياسية".
غير أن الموقف الرسمي للحركة وإن بدا دبلوماسيا، فإنه لا يعكس مواقف أنصارها وحلفاءها، الذين شنوا هجوما واسعا على الرئيس التونسي على وسائل التواصل الاجتماعي.
في المقابل انتقد "ائتلاف الكرامة"، التشكيل السياسي الإسلامي المقرب من حركة النهضة، بشدة سياسة سعيد واختيار للمشيشي.
وقال رئيس الإئتلاف، سيف مخلوف، عبر صفحته في فيسبوك: "مصير الاستشارات الورقية بخصوص رئيس الحكومة كان في سلة مهملات القصر"، معتبرا أن "رئيس الجمهورية تحّل إلى عبء حقيقي على الانتقال الديمقراطي في تونس، وينكر فعليا الدستور والنواب والأحزاب".
خياران أحلاهما مر
ويرى الكاتب والباحث التونسي، هادي يحمد، في تصريحات لـ"سكاي نيوز عربية"، أن ''تكليف سعيّد للمشيشي يؤكد حالة شبه القطيعة، بين الرئاسة وحركة النهضة، لكنه، وهذا الأهم، وضع الحركة في وضعية من الصعب التنبؤ بآثارها السلبية على المستوى البعيد، كون هذا الاختيار أفقدها كل أوراق المناورة".
وأضاف: "اليوم نجد النهضة مدفوعة دفعا إلى تقبل أنها لم تعد الحزب المحدد في البلاد، ولم تعد المتحكم الرئيسي في المشهد. في أفضل حالاتها ستكون النهضة شريكا ضعيفا في الحكومة القادمة، وربما إذا رجحت تأويلات تصريحات المواجهة مع قصر قرطاج، ستدفع إلى الخروج من الحكومة والتحول إلى المعارضة".
من جانب آخر، يرى الأكاديمي وأستاذ الأنثروبولوجيا السياسية، رافع الطبيب، في تصريحات لـ "سكاي نيوز عربية"، أنه "لأول مرة منذ انتخابات المجلس التأسيسي (2011)، تبدو حركة النهضة عاجزة عن ضبط الحركة الحكومية، ولا تمتلك جل أوراق اللعبة فيما يخص تعيين وزراء من قياداتها في المراكز الحساسة".
وبدأ العديد من المتابعين لسير الحراك السياسي، يلاحظون جليا "فقدان النهضة للمبادرة في نحت الواقع في تونس، على مستويات ومجالات مختلفة منذ اليوم الذي قرر فيه الرئيس سعيد لعب دور خارج الحدود، التي كان الإسلاميون يعتقدون أنه محكوم برسمها"، وفق الطبيب.
وتابع: "تسمية المشيشي تجسد بوضوح السبق في المبادرة لدى سعيد وقدرته على تجاوز الأحزاب والبرلمان وفرض تصوره للحكم، وإن حاولت النهضة التريث على المستوى الرسمي، فإن الهوى القاعدي للحركة انبرى للتنديد باختيار الرئيس للمشيشي، وامتلأت الصفحات الأكثر تمثيلا للقواعد الإسلامية بالمحتويات المسيئة للمشيشي إلى حد تكفير الرجل".
وأشار الأكاديمي التونسي إلى أن نفس هذه الصفحات "كانت تقود حملة ضد سعيد منذ أشهر، وتطعن في أحقيته لتفسير المواد الدستورية المختلف حولها".
وأضاف: "النهضة تدرك جيدا أن الانتخابات السابقة لأوانها وفي هذا الظرف، يمكن أن تمثل فرصة لمعارضيها لهزمها بشكل مذل، لذا ستحاول المناورة داخل البرلمان مع الكتل التي فقدت شعبيتها، ومع طيف واسع من المستقلين، الذين يدركون أن أي تحوير في قواعد الاقتراع واعتماد قانون انتخابي جديد يعني إزاحتهم من المشهد وفقدان المركز الذي وصلوا إليه".
وينص البند 99 من الدستور التونسي على أنه ''عند تجاوز الأجل المحدد دون تكوين الحكومة، أو في حالة عدم الحصول على ثقة مجلس نواب الشعب، لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب (البرلمان) والدعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في أجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما''.
النهضة.. هامش تحرك "بدأ يضيق"
وكان الرئيس التونسي قد صرح خلال مراسم تكليف المشيشي بتشكيل الحكومة الجديدة، بأن الوقت قد حان لـ"مراجعة الشرعية" في البلاد.
وقال: "الشرعية نحترمها، لكن آن الأوان حتى تكون تعبيرا صادقا عن إرادة الأغلبية"، في إشارة ضمنية على رغبته في التوجه نحو انتخابات سابقة لأوانها، تعيد تشكيل مشهد سياسي جديد.
ويرى الطبيب أن النهضة ستعمل بشكل تراجعي مع تكوين حكومة المشيشي، وذلك في محاولة للمطالبة ببعض الوزارات في المرحلة الأولى.
أما إذا تعذر ذلك، "فستعمل على استمالة المشيشي، وفي حال لم تتمكن من تحويل ولاء رئيس الحكومة، فإنها ستتجه للمساومة على تمرير المحكمة الدستورية بنسج تحالفات انتهازية داخل البرلمان، وضمان قانون انتخابي يسمح لها بإنقاذ ما يمكن من مقاعدها"، بحسب الطبيب.
واستطرد بالقول: "هامش تحرك النهضة بدأ يضيق.. الحركة اعتمدت على الكتل البرلمانية في الترغيب، وباستعمال (الملفات) في الترهيب، إلا أن العديد ممن كانوا يخشون النهضة وتهديدها باللجوء للابتزاز بدأوا يستشعرون تغير اتجاه الريح ونزوح مركز القرار نحو قرطاج".
ونوه الأكاديمي التونسي إلى أنه يجب الإشارة إلى أن "صعوبة الموقف ودقة المرحلة وتشتت أوراق النهضة واختلاف مراكز ومصالح العديد من قياداتها، قد تساهم في إبراز الانشقاق الداخلي الذي تعيشه منذ أشهر".
من جانبه، يرى يحمد أنه "رغم بيان التهدئة الذي أصدرته النهضة لأنصارها الغاضبين، منذ أن أعلن عن الاختيار الجديد لرئيس الحكومة المكلف، فإنه من الأكيد أن حالة من القلق الكبير تسود المحيطين برئيس الحركة راشد الغنوشي، حول مصيرها وخروجها الممكن من الحكم".
وأضاف: "ذلك فضلا عن الضغط الكبير الذي يواجهه الغنوشي ذاته باقتراب موعد جلسة سحب الثقة منه من رئاسة البرلمان".
واختتم الكاتب والباحث التونسي حديثه بالقول، إن النهضة اليوم "في مفترق طرق كلها تؤدي إلى مزيد من التنازلات وفقدان النفوذ السياسي، هذا طبعا إذا ما تورطت الحركة باعتماد أسلوب آخر، وهو سد كل منافذ الطرق السياسية عبر الاستقواء بأنصارها في الشارع.. وهو اختيار من المؤكد إذا ما حدث، سيكون محفوفا بكل السيناريوهات والمخاطر" .