يبدو أن الخلافات بين الرئيس التونسي قيس سعيد ورئيس البرلمان، راشد الغنوشي، بدأت تأخذ مسارا تصاعديا ومنحى شخصيا، بعد أن غاب رئيس الدولة عن موكب الاحتفال بعيد الجمهورية، الذي يقام عادة في ضاحية باردو، حيث يوجد مقر البرلمان وهو المكان الذي أعلن فيه قيام الجمهورية في 25 يوليو 1957.
وقام الغنوشي منفردا بالإشراف على الاحتفال، مشيرا في بيان صدر، السبت، إلى أن الحفل اقتصر على "موكب تحية العلم بحضور أعضاء مكتب المجلس، لأسباب تتعلق بحفظ الصحة العامة وتواصل العمل بإجراءات التوقي من عدوى فيروس كوفيد 19".
لكن التعلل بالأزمة الصحية لم يكن إلا غطاء للخلاف العميق بين الغنوشي وسعيد، إذ كشف القيادي في حركة النهضة، رئيس الحكومة السابق علي العريض، عن رفض رئاسة الجمهورية المشاركة في موكب الاحتفال.
وقال العريض في نص نشره على صفحته الرسمية بالفيسبوك: "بدأ مجلس نواب الشعب، من خلال مكتبه، الإعداد لإقامة هذه التظاهرة منذ أسابيع بالاشتراك والتعاون مع ممثلين عن رئاسة الجمهورية. ويبدو مع الأسف أن رئاسة الجمهورية قد أعلمت رئاسة المجلس قبل أيام باعتذار رئيس الجمهورية عن الحضور، ولا أعرف الأسباب".
وطالب القيادي في حركة النهضة الرئيس قيس سعيد بإصدار توضيح، مشيرا بالقول: "أرجو أن لا يتجه التأويل إلى اعتبار ذلك موقفا من المجلس، وخلطا بين ضرورة احترام الأعراف في الاحتفال بأعيادنا الوطنية وبين المواقف الخاصة من أشخاص أو مؤسسات"، الأمر الذي يكشف عن وجود خلافات عميقة بين الرجلين وقطيعة وصلت حد الإعراض عن التشارك في المراسم البروتوكولية.
خلاف جذري
ويرى الباحث في العلوم السياسية بجامعة "باريس إست"، رامي التلغَ، في تصريحات لـ"سكاي نيوز عربية"، أن الصراع الدائر بين الرئيس قيس سعيد من جهة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي ومن ورائه حركة النهضة، "ينطلق من اختلاف جذري بين الطرفين في مقاربة العمل السياسي، حيث تعودت حركة النهضة منذ عودتها للنشاط في العام 2011، على إبرام الصفقات والتوافقات مع قوى سياسية معارضة، في مقابل تقاسم السلطة تاليا محافظتها على مكاسب هامة ضمن المصالح المشتركة للطبقة الحاكمة، في المقابل ينطلق الرئيس سعيد من مقاربة قائمة على صرامة تطبيق القانون، نظرا لخلفيته الأكاديمية، ورفض أنصاف الحلول والتوافقات الرخوة، والتي نعيش اليوم نتائجها الكارثية على الاقتصاد وحتى على مستوى طبيعة النظام السياسي الهش، والذي يريد سعيد تغييره جذريا".
وكان لافتا ما صرح به الرئيس التونسي، خلال مراسم تكليف وزير الداخلية هشام المشيشي، بتكوين الحكومة الجديدة، مساء أمس السبت، حول ضرورة مراجعة الشرعية في البلاد، في إشارة إلى النظام السياسي القائم. وقال سعيد: "الشرعية نحترمها، لكن آن الأوان حتى تكون تعبيرا صادقا عن إرادة الأغلبية".
وكان سعيد قد هدد في 20 يوليو الماضي، خلال اجتماع مع الغنوشي ونائبيه في القصر الرئاسي، باللجوء إلى الدستور لوضع حد للفوضى التي تعصف بالبرلمان.
وقال "إن الوضع غير عادي بالمرة، لم تشهده تونس بالمرة، البرلمان صار يعيش حالة من الفوضى لا أحد من التونسيين يقبل بها، ولا يمكن أن يتواصل، لدينا من الإمكانيات القانونية ما يسمح لنا بالحفاظ على الدولة التونسية".
ويعتقد رامي التلغّ، أن "حركة النهضة دشنت علاقتها بالرئيس سعيد منذ بداية عهدته معتمدةً الأسلوب نفسه في تعاملها مع رؤساء البلاد السابقيين، حيث حاولت دائماً الاستقواء بأغلبيتها البرلمانية لفرض مواقفها، ومنذ الشهر الأول، دخل الغنوشي بقوة لدعم حلفائه في ليبيا وتركيا، متجاوزاً الدستور، الذي يضمن لرئيس الدولة صلاحية تسيير دفة العلاقات الخارجية، ويبدو أن الرئيس سعيد استشعر منذ البداية أن النهضة ورئيسها يتجهون نحو فرض نوع من سلطة الأمر الواقع، فتوجه نحو استعمال صلاحيته معتمدا على الدستور وعلى قاعدة شعبية مازالت قوية وفقاً لأغلب استطلاعات الرأي".
إلى أين يتجه الصراع؟
لا يكاد يمر يوم، لا يسجل فيه الرئيس قيس سعيد موفقا أو يتخذ فيه قرارا لا يلقى رضا لدى حركة النهضة، وكان آخرها تكليفه لوزير الداخلية، هشام المشيشي، بتكوين الحكومة الجديدة متجاهلا المقترحات التي تقدمت بها الأحزاب السياسية، وخاصة مرشحا النهضة.
وهذا القرار سيضع الحركة أمام خياران أحلاهما مر: إما منح الثقة للحكومة الجديدة والتسليم بخيار الرئيس أو التوجه نحو إنتخابات سابقة لأوانها لن تكون نتائجها مضمونة لصالحها، في ظل إجماع أغلب استطلاعات الرأي على تدني شعبية النهضة في مقابل صعود أسهم غريمها، الحزب الدستوري الحر.
ويشير التلغّ إلى أن "الرئيس سعيد بدا واضحا في الأونة الأخيرة إلى أنه يتوجه بجدية للدفع بفتح العديد من الملفات التي تتعلق بحركة النهضة، والتي بقيت لسنوات دون حلّ، ولعل أهمها قضايا الإغتيالات السياسية، والتي نجحت سنوات التوافق بين النهضة ونداء تونس في إغراقها بالأمور الإجرائية في أروقة القضاء دون أن نعرف حقيقة ما حدث منذ أكثر من سبع سنوات".
وكان الرئيس التونسي قد أكد، الجمعة، حرصه على كشف حقيقة اغتيال المعارضين محمد البراهمي وشكري بلعيد عام 2013.
وأفاد بيان صادر عن الرئاسة أن الرئيس سعيد شدد على أن "دماء الشهداء لن تذهب هباء"، مجددا "حرصه على تطبيق القانون على الجميع".
وأضاف: "حريص على أن توفر الدولة كل إمكانياتها لكشف الحقيقة الكاملة لاغتيال البراهمي وبلعيد، وغيرهما من شهداء الوطن".
وما أثار الانتباه أكثر، هو تزامن غياب الرئيس سعيد عن موكب الاحتفال بعيد الجمهورية، في الوقت الذي اتجه فيه منفردا لزيارة قبري كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
ويرى الحقوقي والعضو المؤسس في الهيئة العليا للانتخابات، سامي بن سلامة في تصريحات لـ "سكاي نيوز عربية" أن الخلافات بين سعيد والغنوشي هي "صراع بين الشرعية، من جهة، وقوى تريد تجاوز السلطة بالقوة، ولن تتوقف المعركة إلا بانسحاب أحد الطرفين أو بهزيمت".
واعتبر ان "الرئيس سعيد اليوم يقف في موقع قوة، متسلحا بالدستور.. وفي غياب المحكمة الدستورية والشرعية الشعبية، فإن الغنوشي في موقف ضعف شديد، إذ اهترأت مكانته وكاد رصيده ينتهي وسترفع يده قريبا جدا عن تونس".
ويضيف سلامة:"نحن أمام بوادر تحولات كبرى، خاصة إذا ما رفضت حركة النهضة منح الثقة لحكومة هشام المشيشي وتم حل البرلمان وفقدان زعيم الحركة سلطته الحالية".