نالت البلدان المغاربية استقلالها عن المستعمر الأجنبي، منذ مدة تزيد عن نصف قرن، لكن "جروح الماضي" لم تندمل كثيرا في شمال إفريقيا، إذ ما تزال مطالب جبر الضرر قائمة في مختلف دول المنطقة.
وعاد نقاش الماضي الاستعماري مجددا إلى الواجهة، خلال الأيام الأخيرة، بعدما استعادت الجزائر جماجم رجال المقاومة التي ظلت في أروقة متحق الإنسان بالعاصمة الفرنسية باريس طيلة 170 عاما.
وإذا كانت فرنسا والجزائر قد طويتا هذا الملف الشائك، فإن قضايا كثيرة ما زالت عالقة، حتى وإن كانت باريس أبرز شريك سياسي واقتصادي للجزائر وباقي الدول المغاربية، في الوقت الراهن.
وخضعت الجزائر للاستعمار الفرنسي على مدى 130 عاما، بينما رزح المغرب تحت الحماية الفرنسية والاستعمار الإسباني، فيما خضعت تونس وموريتانيا لفرنسا، واحتل الإيطاليون ليبيا.
وتتعالى الأصوات منذ عقود في هذه البلدان، لأجل دفع مستعمري الأمس إلى الاعتذار عما يُوصف بـ"جرائم الأمس"، فيما تحاول الدول الغربية أن تتنصل من هذه الخطوة، نظرا إلى تكلفتها المالية أو الرمزية.
لكن هذه الدعوات الصادرة عن أكاديميين ومؤرخين وفاعلين سياسيين لأجل دفع المستعمر إلى الاعتذار تصطدم بتعقيدات شتى، أبرزها أن التاريخ يكتسي طابعا نسبيا، وثمة خلاف كبير حول عدد من الأحداث والمعارك وأعداد الضحايا.
وإذا كانت الدول المغاربية حريصة على جبر الضرر، فإن هناك حرصا آخر على العلاقات مع مستعمر الأمس الذي أضحى من أقوى الشركاء على مختلف الصعد.
وفي سنة 2008، أعلن رئيس الوزراء الإيطالي السابق، سيلفيو برلسكوني، اعتذار بلاده لليبيا عن الماضي الاستعماري، ووقع اتفاقية مع الزعيم الليبي الراحل، معمر القذافي، ونصت الوثيقة على تقديم تعويضات من خلال الاستثمار في بنية ليبيا التحتية على مدى 25 عاما، لكن اضطراب البلاد في 2011، أوقف مسار التسوية.
"جرائم لا تتقادم"
وترى أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجزائر، نبيلة بن يحيى، أن الجريمة لا تسقط بالتقادم، لاسيما حين يتعلق الأمر بمقاومين بذلوا أرواحهم لأجل تحرير الأوطان من المستعمرين.
وأضافت الأكاديمية الجزائرية، في مقابلة مع موقع "سكاي نيوز عربية"، أن الجرائم التي ارتكبت في الماضي، كانت على درجة كبيرة من الفظاعة، قائلة إن فرنسا لم تنجح في سياسية "الأرض المحروقة" و"مخطط الإبادة" بين سنتي 1830 و1962.
وتبعا لذلك، فإن "البال لم يهدأ"، بحسب بن يحيى، إلا بعد عودة "جماجم الشهداء"، بعدما ظلت فرنسا حريصة على "تمجيد" الماضي الاستعماري رغم الحديث عن قيم الإخاء والحرية والمساواة في البلد الأوروبي.
وتؤكد بن يحيى أن هذه الجماجم ليست سوى جزء إلى جانب رفات مقاومين آخرين من الدول المغاربية والإفريقية التي خضعت للاستعمار الفرنسي خلال القرن الماضي.
وتضيف بن يحيى أنه صرنا في القرن الحادي والعشرين، وفرنسا لم تعترف بعد بماضيها "القاتم"، وهي تصر على هذا النهج في إطار قانون 23 فبراير 2005؛ وهو تشريع يؤكد ما يقول إنه دور إيجابي للاستعمار في الخارج، ويقضي بأن تقوم مناهج التعليم بالتعبير عن هذه الفكرة في مقررات التاريخ.
وتشير بن يحيى إلى وجود أرشيف وطني محتجز من قبل فرنسا، قائلة إن باريس تستخدمه في عمليات ابتزاز لبعض الأنظمة السياسية، لكن الجيل الحالي يرفض الوصاية، بحسب تعبيرها.
وأضافت أن الحراك الذي شهده الجزائر في العام الماضي، يؤكد رغبة التغيير والقطع مع الممارسات التي كانت قائمة في الفترة الماضية، "لكن محكمة التاريخ هي الأقوى"، بحسب الباحثة.
إرث ثقيل
من ناحيته، يرى أستاذ العلاقات الدولية في المغرب، عبد الفتاح بلعمشي، أن المآسي التي خلفها الاستعمار، خصوصا في دول شمال إفريقيا، كانت لها كثير من التبعات التي تستوجب الاعتذار من طرف "القوى الإمبريالية".
وأضاف الباحث المغربي، في حديث مع موقع "سكاي نيوز عربية"، أن ممارسات الاستعمار خلفت الكثير من الأرواح بين المقاومين وجيوش التحرير، فضلا عن الأزمات التي تواصلت بعد الاستقلال، مثل قضية القصف بالغازات السامة من قبل إسبانيا في منطق الريف المغربية، وعدم الحسم في مسائل حدودية بين الدول المغاربية.
وأضاف أن إعادة جماجم المقاومين الجزائريين، يشكل اعترافا من النخبة الحاكمة في فرنسا بالماضي، حتى وإن لم يكن الجيل الحالي مسؤولا عما وقع في الماضي، لكن الاعتذار ليس عيبا.
وأشار البلعمشي إلى أن إسبانيا مثلا اعتذرت لليهود "السفارديم" الذين جرى طردهم من منطقة إيبيريا قبل قرون، وتم الإعلان في سنة 2016 عن منح الجنسية الإسبانية لمن يستطيع منهم أن يثبت أصوله.
وأورد الأكاديمي المغربي أن العلاقات لم تتوقف بين الدول المغاربية، من جهة، والدول المستعمرة، من جهة ثانية، لأن فرنسا تعد أبرز شريك لكل من المغرب والجزائر، أي أن هناك مصالحة سياسية واقتصادية حاضرة، لكن الجروح والآلام التي خلفها الاستعمار تستدعي طي الصفحة وجبر الضرر.
وأردف أن هناك حديثا عن وجود اتفاقيات سرية بين فرنسا ودول فرانكفونية، وهذا "يجب أن يماط عنه اللثام"، لأن البعض يتحدث عن ضمانات باستمرار مصالح الدول المستعمرة "وهذا لا ينجسم مع المنافسة المشروعة على المستوى الدولي".
وحين سألنا الباحث حول إمكانية تأثير هذه المطالب على العلاقات الحالية "الوثيقة" بين فرنسا والدول المغاربية، أجاب بأن العلاقات والمصالح تكتسي طابعا متبادلا، وهذا التراكم الذي أحدثته الشراكات الاستراتيجية لا يلغي دعوات الإنصاف وجبر الضرر الناجم عن الماضي.
وأكد أنه لا يمكن أن يلغي الملف الآخر أو يجبه، لأن اعتذار الفرنسيين عما ارتكبه أجدادهم في فترة الاستعمار قد يكون عامل قوة ودعم للشراكة القائمة حاليا بين الطرفين، "لكن المخيف في الوقت الراهن هو ما يصدر من مواقف عنصرية ضد إفريقيا من قبل اليمين المتطرف".
وأضاف أن الاعتراف بأخطاء الماضي من شأنه أن يضع حدا للصور النمطية التي تحوم حول الجاليات المغاربية في البلدان الأوروبية، "أما التعاون الاقتصادي فأمر حتمي لمصلحة الجميع".
وفيما تتراوحُ مطالبُ الاعتذار بين أحقية الماضي ومصالح الحاضر، تظلُ هذه القضية شائكة بين الدول المغاربية ومستعمري الأمس، كما أنها تخضع غالبا للمد والجزر في العلاقات، إذ تتوارى في لحظات الدفء والتقارب، لكنها تطفو على السطح في أزمنة التوتر والبرود.