أمام الخبراء والمجتمع المدني والأحزاب السياسية في الجزائر، مؤشرات لتمديد آجال التقدم بمقترحاتهم لتعديل مسودة الدستور الجزائري الجديد، بعد أن أنجبت مدة الثلاثة أشهر من النقاش أكثر من 1500 مقترح، تركزت معظمها حول 60 نقطة تشكل مفاصل الدستور الجزائري المأمول.
وتطمح السلطة الجزائرية بالخروج بدستور يحمي مبدأ التوازن بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، بما يتماشى وطبيعة النظام السياسي الجديد، وهو نظام شبه رئاسي سيمكن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون من المضي بخطوات أكثر ثباتا نحو تطبيق برنامجه الانتخابي.
بين سياسي متفائل وآخر متشائم، ساد الشارع الجزائري مناخ أقرب إلى اللامبالاة والهدوء الحذر، وهذا الجو العام يعيد للأذهان شكل النقاش الذي دار حول دستور البلاد عام 1989، الذي رسم ملامح العهدة الأخيرة للرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وإن كان الجديد فيما يُطرح الآن هو مسائل جيوستراتيجية.
وقد تنعكس هذه المسائل على سياسية الجزائر الخارجية، خصوصا تلك المادة المتعلقة بمشاركة الجيش في عمليات خارج البلاد، فضلا عن مسألة نائب الرئيس التي أثيرت لسنوات، لكنها بقيت حبيسة الأدراج.
وبإطلالة تاريخية، حسب فقهاء الدستور، فإن الجزائر تكون قد جربت منذ استقلالها عن المستعمر الفرنسي عام 1962 تقريبا، كل الأفكار المقترحة لتعديل دساتيرها الأربعة، بما فيها تلك التي تشير إلى زهد الرئيس في الحكم من خلال تحديد الولاية الرئاسية مرتين.
ويبدو أن السلطة الحالية حفظت الدرس هذه المرة، للحيلولة دون تكرار أخطاء الماضي القريب، وخصوصا الفترة التي حكم فيها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الجزائر على مدى 20 عاما.
دساتير تولد من رحم الغضب
وعرفت الجزائر المستقلة 4 دساتير، تم تعديها عدة مرات، أولها دستور عام 1963، وثانيها دستور 1976 وثالثها دستور 1989 ورابعها دستور 1996.
كل هذه الدساتير جاءت على خلفية ظروف تشبه الحراك، فدستور الرئيس الراحل هواري بومدين جاء بعد ما أطلق عليه "التصحيح الثوري"، ودستور 89 جاء على خلفية أحداث "5 أكتوبر"، ودستور 96 جاء بالتزامن مع ما عرف بأحداث "العشرية السوداء"، ولم يشذ طرح مسودة الدستور الجديد هذه المرة، على قاعدة التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد، بعد عام من حراك 22 فبراير.
ويعتقد بعض المتابعين أن توقيت طرح مسودة الدستور للنقاش لأول مرة بتاريخ الأول من مايو 2020، "لم يكن مناسبا"، وقد ساهم في توسيع دائرة الشكوك بشأن "نويا السلطة الحقيقة" في التغيير، مقارنة بتطلعات حراك 22 فبراير، خاصة في ظل وباء كورونا وعدم حل البرلمان الموروث عن عهد بوتفليقة.
ويرى قانونيون وسياسيون أن المشكلة في الجزائر لم تكن يوما مع القوانين والدساتير، "وإنما مع الممارسات".
وفي هذا الصدد، يقول رئيس حزب الجبهة الوطنية الجزائرية موسى تواتي، إنه "من الأجدر طرح مسألة شكل النظام للاستفتاء، قبل الدخول في مناقشة مواد الدستور".
وأضاف: "لا يمكن للنخبة ولا الأحزاب السياسية ولا حتى للرئيس أن يقرر شكل النظام"، مؤكدا على ضرورة "الفصل بين مسألة طبيعة النظام ومناقشة مواد الدستور".
لكن هذا الطرح، الذي يتحدث عن ضرورة عرض الدستور للتصويت مادة بمادة، يبدو أنه لا يخدم توجهات الرئيس عبد المجيد تبون، الذي يريد الانطلاق بمشروعه "جزائر جديدة" في أسرع وقت ممكن.
ولعل مضي 6 أشهر من وصوله إلى قصر الرئاسة، دون وضع حد للجدل حول الدستور، يبطئ وتيرة الإصلاحات التي يتطلع لها الرئيس، في ظل التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، التي تواجهها الجزائر.
ويرى الخبير الدستوري عمار خبابة، أن البلاد "بحاجة إلى دستور جديد، وليس فقط الرئيس تبون"، مشيرا إلى أن المرشحين الخمس لرئاسيات 12 ديسمبر الماضي، حملوا معهم فكرة تعديل الدستور.
وقال خبابة لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن "الشعب طالب بتغيير طبيعة النظام، ولا تزال لديه مطالب أخرى"، معتبرا أن "الحل الأمثل في هذه الحالة هو المضي باتجاه نظام رئيس الحكومة".
ولاتزال هذه القضية مرتبطة بالصيغة المطروحة في الدستور، الذي لم يفصل في مسألة تعين رئيس الحكومة، بشكل يتماشى مع طبيعة النظام الجديد.
وفي حال اختيار الأخير عن طريق الأغلبية البرلمانية، سيساهم ذلك في "تحرير الرئيس من قبضة السلطة التنفيذية، ويجعل منه حكما بين السلطات".
مسودة ثانية مقابل الوقت الضيق
ويتوقع الخبراء إصدار مسودة ثانية من الدستور لطرحها للنقاش بشكل سريع. ويعلل هؤلاء ذلك بأنه "ليس من مصلحة الرئيس الجزائري المجازفة بالمضي إلى سياسية الأمر الواقع"، رغم أن مسودة الدستور تحمل أوراقا ثمينة بشأن الحريات قد تجعل منه طعما جيدا للمعارضة.
وقد انعكس ذلك على التوجه العام لسياسية حزب جيل جديد، من خلال انفتاحه على الحوار ودعم خارطة الطريق التي تطرحها السلطة.
ويعتبر مراقبون أن تبون استطاع خلال فترة حكمه القصيرة "كسب أصدقاء جدد"، خصوصا وأن مسعاه يحمل نويا إيجابية، عبر طرح مبدأ الفصل بين السلطات، وعرض مسودة الدستور للنقاش على الطبقة السياسية، ومحاولة السير وفق المطالب الشعبية الساعية لوضع حد لسياسية الامتيازات والتفرد بالقرار.
ومنذ توليه سدة الحكم، بدا تبون أكثر المغازلين للحراك، واصفا إياه بـ "المبارك"، وكان التحدي الأساسي هو تحويل الحراك إلى طاقة إيجابية تدفعه نحو الأمام.
ومن هذا المنطلق، ركزت مسودة الدستور على "إزالة قيود البيروقراطية القديمة، وجعل التظاهر حقا يمكن الحصول عليه بمجرد التصريح وليس الترخيص، شأنه في ذلك شأن تأسيس الجمعيات".
خطوات جادة نحو التغيير.. ولكن
ويعتقد المحامي نجيب بيطام، أن تلك النقطة تأتي كـ"ثمرة للحراك، تضاف إلى ثمرة تقليص مدة الولايات الرئاسية لنواب البرلمان وتسقيفها لولايتين فقط".
وقال بيطام لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن ذلك يعكس "نوايا التغيير الحقيقي الذي تنشده البلاد"، مضيفا أنه "مكسب لحرية التعبير وضامن لحق التظاهر السلمي".
وتواجه المواد التي تتعلق بحرية التعبير أزمة مصداقية، في أعين السجناء الذين يقبعون خلف القضبان بتهم، يقولون إنها تتعلق معظمها بآرائهم السياسية الحادة، التي يعبرون عنها على مواقع التواصل الاجتماعي.
وتقول اللجنة الوطنية للإفراج عن المعتقلين، إن 60 شابا وجدوا أنفسهم في السجون بسبب ما يعتبرونه"تضييقا وتكميما للأفواه"، إلا أن السلطات تقول إن تلك الاعتقالات "لا علاقة لها بحرية التعبير، وإنما بسبب حملات القذف والتشويه وإهانة رئيس الجمهورية".
ودعا أستاذ علم الاجتماع السياسي، الدكتور ناصر جابي، إلى ضرورة الحذر من "تكرار أخطاء الماضي، التي جعلت من الدستور مجرد وثيقة جامدة أمام الممارسات السياسية والقوانين التنفيذية".
وبشكل عام تعول الدولة على الآراء الجادة والمقترحات البناءة قبل طرح الوثيقة للاستفتاء الشعبي المقرر قبل نهاية السنة الجارية، وتحمل الصورة "رغبة جادة" في التوجه نحو دستور توافقي لا يتنازل على المواد التي من شأنها تحقيق المصالح الاستراتيجية للدولة، خاصة في الملفات ذات البعد الخارجي.