قبل نحو 8 سنوات، رفع التونسيون شعار "شغل وحرية وكرامة وطنية" وكلهم أمل في منح بلادهم نفسا جديدا، يقودهم إلى تحسين أوضاعهم الاقتصادية وحياتهم اليومية، لكنهم اصطدموا في نهاية المطاف بواقع مرير، ليتحول ذلك الأمل إلى إحباط وخيبة.
كان الشعب التونسي يعتقد أن "ثورة الياسمين" عام 2011 ستحقق الأهداف، التي خرجوا من أجلها إلى الشوارع، حيث كانت اقتصادية بالدرجة الأولى، إلا أن مشهد البلاد الحالي يثبت العكس.
وتظهر المعطيات الاقتصادية في تونس ارتفاعا في نسبة البطالة والتضخم، إلى جانب غلاء المعيشة وضعف رواتب الموظفين، مما دفع عددا من الشباب إلى اتخاذ قرار الهجرة إلى الدول الأوروبية من أجل "الحياة السعيدة".
والتقى مراسل موقع "سكاي نيوز عربية" في العاصمة تونس، أماً تونسية حكت بألم وحرقة شديدين قصة هجرة ابنيها، اللذين يبلغ عمرهما 22 و27 عاما.
وقالت خديجة ج.، التي تتحدر من مدينة أم العرائس بولاية قفصة التونسية، إن غياب فرص العمل وارتفاع تكاليف المعيشة فرضت على ابنيها مغادرة البلاد، مضيفة: "لم أجتمع معهما منذ 3 سنوات، أي منذ أن هاجرا إلى إيطاليا بحثا عن مستقبل أفضل".
وتابعت: "كانت كل العائلة تترجوهما من أجل البقاء بين أحضاننا، لكن اليأس وصل بهما إلى درجة لا تطاق.. اختارا الهجرة السرية على أن يعيشا مستقبلا غامضا هنا.. لكن دعنا نتحدث بصراحة، كيف كان سيكون مصيرهما لو قررا البقاء؟ أوضاعنا تزداد سوءا يوما بعد يوم".
حال ابني هذه الأم يشبه آلاف التونسيين الآخرين، الذين جعلوا من مدن إيطاليا مركزا لحياتهم الجديدة، حيث تفيد أرقام المنظمة الدولية للهجرة باحتلال تونس، العام الماضي، المرتبة الأولى من حيث عدد المهاجرين غير الشرعيين إلى إيطاليا.
"غياب الثقة في الساسة"
ويحمل التونسيون مسؤولية ما تتخبط فيه بلادهم، إلى الحكومات التي تعاقبت على تسيير شؤون الدولة بعد الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، مشددين على أن الثقة في الساسة انخفضت "إلى مستوى الصفر".
ويقول خالد عبيد، وهو أكاديمي تونسي متخصص في الشؤون السياسية والاستراتيجية، إن بلاده تعيش وضعا اقتصاديا صعبا، مضيفا أن "الشعب أصيب بإحباط شديد تجاه بعض الأحزاب بسبب الأحلام التي باعتهم إياها، مثل حركة النهضة، الذي يشارك في الائتلاف الحاكم الحالي".
وأردف عبيد قائلا لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن التونسيين الذين "اختاروا (النهضة) بعد الثورة، أصيبوا بخيبة أمل كبيرة، بعدما وعدتهم بتغيير أوضاعهم المعيشية والاقتصادية وإصلاح المشهد السياسي في البلاد".
كما حمّل مسؤولية تردي المشهد السياسي إلى التنظيمات الحزبية الأخرى، قائلا: "الأحزاب المتبقية لم تعد قادرة على حشد التأييد ودفع الناس إلى المشاركة في الحياة السياسية، وبالتالي فإن المستفيد من العزوف عن صناديق الاقتراع هو حركة النهضة".
وفسّر ذلك بالقول: "كلما كان عدد المصوتين كبيرا كلما تضاءلت فرص النهضة في اعتلاء المراكز الأولى، على اعتبار أن قاعدتها لم تعد تضم سوى المتعاطفين معها عقائديا، ومن يتبع متعاطفيها، مثل عائلاتهم وأصدقائهم".
وعن مستقبل تونس السياسي، اعتبر عبيد أنه "سيصير قاتما، في حال استمر الوضع الاقتصادي للبلاد على ما هو عليه"، متمنيا أن "لا يكون تشاؤمه في محله".
الكشف عن "حقيقة النهضة"
من جانبه، اعتبر الكاتب والمحلل السياسي، لطفي بن صالح، في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن المشهد السياسي التونسي يبدو متعثرا على بعد أشهر قليلة من الانتخابات التشريعية والرئاسية، مضيفا "هذا التعثر يلقي بظلاله على الأحزاب، التي لم تجهز بعد نفسها كما ينبغي للاستحقاق القادم قبل أقل من سبعة أشهر".
وتابع: "اكتسب التونسيون حالة من عدم الثقة بعد 2011، أي بعد الثورة وبعد الحكومات المتعاقبة، التي لم تحقق ما كان مرجوا منها".
وبعدما ذكر أن الأحزاب الكبيرة في البلاد تعيش معارك وأزمات داخلية، عاد بن صالح ليقول إن الحزب الوحيد الذي يحضر حاليا نفسه على قدم وساق للانتخابات المقبلة هو حركة النهضة، مضيفا: "النهضة تطمح حاليا لافتكاك البرلمان قبل التفرغ للمعركة الرئاسية، بالرغم من أن حقيقتها فضحت".
وأوضح: "حركة النهضة خسرت قاعدتها ولم تعد تمتلك إلا شريحة معينة ومحددة من المقترعين، وذلك بعدما اكتشف المواطنون حقيقة هذا الحزب واقتنعوا بأنهم كانوا يساندون حركة إخوانية".
جهاز النهضة السري ومستقبل الحركة "الأسود"
وباعتبارها القضية التي تفرض نفسها بقوة على الساحة التونسية، والتي قد تعيد ترتيب موازين القوى داخل ردهات السياسة، قال عبيد إن الأنباء عن "الجهاز السري" ستوجه "الضربة القاضية" لشعبية حركة النهضة "في حال ذهبت السلطات بعيدا في التحقيق وكشفت حقيقة المعطيات الرائجة".
وأضاف: "إن ظهرت الحقيقة، فإن السلطة التنفيذية ستجد نفسها مجبرة على رفع قضية لحل حركة النهضة، لأن القوانين المؤطرة للأحزاب السياسية تمنع تأسيس أجهزة سرية موازية".
بن صالح أكد هو الآخر ما جاء على لسان عبيد، حيث أوضح أن "إثبات حقيقة قضية الجهاز السري ستؤدي إلى القضاء على حركة النهضة بشكل كامل".
وتابع: "القضية تركت بصمة كبيرة عند الشعب التونسي، والنهضة تخاف من أن تعود للسجون مرة أخرى، لذلك بدت متعثرة إلى حد كبير في التعامل مع ما يروج من اتهامات".
إذن بين تنامي مشاعر الإحباط واستمرارية ضبابية المشهد السياسي في تونس، تظل أهداف "ثورة الياسمين" عالقة، ولو إلى حين.