تزخر ثقافة المغرب برصيد ثري من الفنون، ففي هذا البلد المغاربي يجد الزائر نفسه أمام خيارات شتى من الموسيقى والطرب والرقصات، فإذا ولى وجهه شمالا استمع إلى ما يعرفُ بـ"الطقطوقة الجبلية" وإذا انحدر جنوبا إلى الصحراء صادفته رقصة "الكدرة" مع الطرب الحساني.

وبين هاتين المنطقتين المتباعدتين فنون أخرى لا تقل إبداعا وسحرا؛ لكن هذا التعدد الثقافي ليس في الواقع سوى صورة مصغرة عن مجتمع فسيفسائي انصهرت فيه مختل الحضارات منذ آلاف السنين.

الملحون

في مدينة مكناس، وسط المغرب، ينصت الناس بكثير من الشغف إلى فن "الملحون" وهذا اللون الغنائي يعتمد على قصائد طويلة لها قافية موحدة ويقوم المطرب غالبا بأداء القطعة رفقة إيقاع هادئ بينما ينهمك مشاركون آخرون في ترديد اللازمة.

ولا يمكن الحديث عن هذا الفن العريق وسط المغرب، دون استحضار رائعة الفنان المكناسي، الحسين التولالي "الشمعة".

وأدى الراحل التولالي قصيدة "الشمعة" التي يناجي فيها شمعة ويشكو أمامها ما استبد به من حال الهوى والذبول، وما تزال الأغنية شهيرة حتى اليوم.

وقام عدد من الفنانين الشباب بإعادة أدائها، لاسيما أن التسجيل الأصلي يعود لعقود طويلة لم يكن فيها الاستوديو الفني على درجة كبيرة من التقدم التقني.

ويقول متابعو الشأن الفني إن قصائد "الملحون" تقدم تجربة فريدة فهي تعتمد على قصائد من كلمات بالعامية وأخرى فصيحة كان يتداولها المغاربة حتى وقت قريب لكنها تغيرت بحكم توالي السنوات وحدوث تغيرات اجتماعية وثقافية جمة، كما أن الأغنية الشبابية الجديدة لم تعد تقبل إطالة تمتد إلى نصف ساعة من الزمن أو تفوق هذه المدة.

الطقطوقة الجبلية

وبمغادرة مكناس صوب الشمال يجد المرء نمطا مختلفا تماما ففي منطقة طنجة وتطوان الساحلية ينتشر فن "الطقطوقة الجبلية" الذي يمتاز بإيقاع فريد، كما يحرص من يؤدونه على ارتداء ملابس معينة فالنساء يعتمرن قبعات تعرف بـ"التارازة" ويلففن مناديل على خصورهن أما الرجال فيجعلون العمامة على الرؤوس بينما يرتدون جلابيب بنية.

وتخوض أغاني الطقطوقة عادة في معاني الحب والهجرة. الفنان الراحل محمد العروسي مثلا يصف في أغنيته الشهيرة "عين زورة" (وسط المغرب)، حال إنسان يعود إلى أرضه فتفيض نفسه شوقا من جراء التأثر بما استذكر من الأيام الخوالي وفي هذا القطعة الفنية ما ينطبق على موجات الهجرة المهمة من شمال المغرب صوب البلدان الأوروبية في القرن الماضي.

الحضرة

وفي مدينة شفشاون (شمال) التي تحولت إلى وجهة سياحية آسرة خلال السنوات الأخيرة، تقدم النساء تجربة توصف بالفريدة فهن يمزجن الفن ورهافة الصوت بالمديح الصوفي وهكذا تحرص المشاركات في فرق "الحضرة" على ترديد المدائح في رسول الإسلام الكريم وأصبحت فرقة "رحوم البقالي" تسافر إلى عدد من بلدان العالم لتقديم العروض الفنية والروحية.

الطرب الأندلسي

ولأن المغرب كان مقصدا لعدد مهم من سكان الأندلس الذين فروا من شبه الجزيرة الإيبيرية عقب نجاح "حروب الاسترداد"، استطاع الطرب الأندلسي أن يصمد في المنطقة المغاربية.

وامتاز هذا الطرب عن باقي الفنون بطابعه الخاص، فهو ينهل من الموشحات بصورة أساسية كما يتطلب أداؤه عددا كبيرا من الفنانين، ويعد الفنان المغربي عبد الرحيم الصويري من أشهر من يؤدون هذا اللون الطربي.

ولم يقتصر الفن المغربي على موضوعات الحب والمشاعر المرهفة ففي فن "العيطة" مثلا يتحول الغناء إلى ما يشبه السرد، فهو يحكي عن القبائل في بعض الأحيان كما أن عددا ممن يؤدون هذا اللون الفني يتخذون الغناء وسيلة لانتقاد ما يرونه "ظلما" من المسؤولين المحليين في عقود غابرة وفي هذا الجانب تبرز تجربة فنانة تسمى الشيخة خربوشة.

غناوة

وفي مدينة الصويرة على ساحل المحيط الأطلسي (غربي البلاد) يقام مهرجان سنوي لموسيقى "غناوة" ولا محيد في البداية عن العودة إلى أصول هذه الكلمة للتعرف إلى هذا الفن على نحو أفضل فهو مشتق من "غينيا".

ويرتبط بأشخاص جاؤوا إلى المغرب من أفريقيا جنوب الصحراء خلال القرن السادس عشر، حين كانت البلاد ممتدة إلى جنوب الصحراء ويتواصل الإرث الموسيقي والروحي لهذه الشريحة منذ عدة قرون.

ويرتدي مؤدو فن "غناوة" جلابيب واسعة وملونة كما يحملون أدوات إيقاعية من النحاس في أياديهم أما الرأس فيعتمرون فوقه قبعة لها خيط طويل يستدير بشكل منتظم حين يقدم الفنان "الغناوي" عروضه الحماسية التي يغلب عليها البعد الإفريقي فيما تصدح الكلمات بلغة عربية تتغنى بالجانب الصوفي.

وعلى مقربة من الحدود مع موريتانيا، تمتاز منطقة الجنوب المغربي بالطرب الحساني، وهو لون غنائي باللهجة العربية المحلية وعادة ما ترافقه رقصة "الكدرة" التي تقوم فيها نساء يرتدين ألبسة تقليدية بالتفاعل مع الطرب المؤدى وسط تعالي الزغاريد وغالبا ما تغوص القطع المغناة في معان نبيلة ومشاعر العلاقات الاجتماعية والإنسانية القائمة بين الناس.

رافد أمازيغي

صدح الفن الأمازيغي قرونا من الزمن في شمال أفريقيا، ولذلك يجد المرء نفسه إزاء عدد من ألوان الغناء.

ففي شمال البلاد تشتهر منطقة الريف بأهازيج تسمى "إزران" وهي قصائد تُؤدى مع إيقاع الدفوف وتشارك في الغالب ثماني شابات في هذا العرض؛ تقف أربع منهن في صف منتظم وفي الجهة المقابلة يتراص العدد نفسه من يؤدين هذا الفن الشعبي.

وبما أن الناس ما عادوا ينتظرون مناسبات كبرى مثل الأعراس حتى يستمعوا إلى أهازيج تطول لساعات فقد برع عدد من الفنانين خلال العقود الأخيرة في أداء "إزران" مثل سلام الريفي الذي يشتهر بأسلوبه الخاص لكن المطرب الشهير رحل عن الحياة في أوج عطائه من جراء حادث مروري.

كع كع يا زبيدة

ويصعبُ الحديث عن الأغنية الريفية في المغرب دون استحضار "رائعة "كع كع يا زبيدة" (وتعني تباهي يا زبيدة)، وتم أداء هذه الأغنية أول مرة من قبل المطربة المعتزلة، تاميمونت نسلون، لكن هذه القطعة لم تنل شهرة واسعة إلا بعدما أعانت المطربة ميلودة الحسيمية توزيعها كما أدى أغلب فناني المنطقة هذه الرائعة الفنية.

وفي منطقة الأطلس المتوسط، وسط المغرب، حيث تعلو الأشجار على الجبال الشاهقة، يبدي الأهالي اعتزازا وتمسكا بفن أحيدوس ويقوم هذا الشكل الفني على إقامة دائرة من المشاركين في الأداء وعندها ينطلق الضرب على الدفوف مع ترديد أهازيج وكلمات بالغة الأمازيغية منتظمة ويعد موحى الحسين أشيبان الذي توفي سنة 2016 أشهر عرابي هذا الفن ولقبه الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان سنة 1984 لكثرة ما ظهر في حلقات "أحيدوس" وهو يضبط الإيقاع ويشرف على لوحات فنية مذهلة.

رقصات أحواش

وجنوبا في منطقة سوس، يقيم السكان رقصات أحواش التي يشرف عليها شعراء كبار باللغة الأمازيغية إلى جانب صف ممن يرددون اللازمة وهم يرقصون بالأكتاف، ويحرص من يؤدون هذا الفن على ارتداء ملابس تقليدية من الجلابيب والعمامة بالنسبة للرجال أما المرأة فتضع غطاء مزركشا على الرأس إلى جانب رداء أغلب في الغالب وهو ما يضفي على حلقة الرقص والغناء مسحة متناسقة من الألوان.

ويرى متابعون للشأن الفني في المغرب أن ثمة حاجة إلى إدخال هذه الأشكال الفنية إلى معاهد مختصة حتى لا تضيع في المستقبل لأن الاقتصار على تناقل هذه الأشكال الإبداعية بشكل شفهي وتطوعي لا يضمن حماية كبيرة لإرث غني من القصائد والأشكال التعبيرية حتى وإن صمدت قرونا من الزمن.