عندما هبطت طائرة "إير فرانس" في مطار طهران في الأول من فبراير عام 1979، وفتح باب الطائرة، أطل رجل في العقد الثامن من عمره على شعب كان يرغب في التغيير إلى الأفضل، لكن رجل الدين المتطرف جاء وفي جعبته استراتيجية أطلق عليها "تصدير الثورة" إلى بلدان أخرى.

تبين بعد وقت وجيز أنها مؤامرة لنشر الخراب في إيران وبلدان عربية باتت تعيش أوضاعا بائسة بسبب النفوذ التخريبي لنظام الملالي.

فمنذ وطأ الخميني أرض إيران قبل أربعين عاما، قادما من المنفى، وفرض سلطة دموية، بدأت بإعدام المئات وسجن الآلاف، عاش البلد الذي يملك مخزونا هائلا من النفط والموارد الطبيعية تحت عقوبات دولية بسبب السلوك التخريبي للنظام المتشدد.

وتطبيقا لفكر الخميني بتصدير أفكاره إلى الدول العربية، عمل النظام الإيراني على انتهاج سياسة أنفق خلالها مئات المليارات من الدولارات من أجل إشعال الصراعات في بلدان يعتبرها امتدادا مذهبيا له، بهدف السيطرة عليها.

ويعاني النظام الإيراني بعد أربعة عقود من وضع لا يحسد عليه، جراء إجراءات عقابية حازمة اتخذتها الولايات المتحدة من أجل إجباره على تغيير سلوكه الخبيث في المنطقة، خاصة تمويله ونشره ميليشيات إرهابية مسلحة في عدد من الدول، بالإضافة إلى تطويره صواريخ باليستية وبرنامجا نوويا خدمة لأهداف عسكرية.

هوى الريال الإيراني وفقد ثلثي قيمته منذ بداية عام 2018، في انهيار تاريخي للعملة، في وقت انفجر الشارع غضبا بسبب السياسات الخارجية التي أهدرت عشرات المليارات من الدولارات على تسليح الميليشيات المسلحة في المنطقة تحت ذريعة "تصدير الثورة".

وبعدما وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرارا تنفيذيا بإعادة فرض عقوبات شديدة على النظام الإيراني، قال مسؤولون في إدارته إن العقوبات تأتي لمنع النظام الإيراني من "نشر البؤس في المنطقة بدلا من الاستثمار في شعبه".
ويمكن تتبع سياسة تصدير الفشل الإيرانية في كل من العراق ولبنان، كونهما وقعتا بشكل شبه كامل على المستوى السياسي والاقتصادي تحت نفوذ نظام الملالي.

تدمير العراق

منذ سقوط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عام 2003، سارعت طهران إلى تأسيس ميليشيات مسلحة تتبع الأحزاب الموالية، فأطلقت ميليشيا ما يعرف بفيلق بدر التابع لحزب المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وعصائب أهل الحق المتطرفة، وجيش المهدي، ولواء أبو الفضل أبو العباس وحزب الله العراقي الذي تشكل بمساعدة من ذراع إيران الأقوى حزب الله اللبناني، بالإضافة إلى ما يعرف بكتائب الإمام علي.

وانخرط جانب من هذه الميليشيات في حرب طائفية عام 2007، راح ضحيتها مئات الآلاف من أبناء الشعب العراقي، أجهزت على ما تبقى من الاقتصاد، وحولت بلاد الرافدين إلى دولة فاشلة.

وفي أثناء ذلك، هيمنت طهران على العملية السياسية في هذا البلد، التي اتسمت بنظام المحاصصة الطائفية، حيث تصدرت الأحزاب الموالية لإيران المشهد السياسي.
واعتبرت ملفات الفساد في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي المدعوم من إيران؛ واحدة من أسوأ المراحل التي مرت على العراق في التاريخ الحديث.

مساحة للإرهاب

ويكفي أنه في عام 2014، أدى انسحاب متعمد للجيش العراقي من الموصل إلى سيطرة داعش على المدينة وفروع البنك المركزي العراقي، ليصبح التنظيم الإرهابي الأكثر ثراء في العالم، بالإضافة إلى المعدات العسكرية الهائلة التي غنمها من الجيش، ليستفحل كابوس التنظيم في ظروف غامضة، وتنطلق دعوات بتشكيل ميليشيات الحشد الشعبي بدعم إيراني لمكافحة التنظيم لكنها وجهت سلاحها أيضا إلى أبناء المحافظات السنية.

وسيطر داعش على 40 في المئة من مساحة العراق؛ قبل أن يندحر في عام 2017، بتدخل تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة.
ومنذ مطلع عام 2018، يعيش العراق على وقع أزمة متعددة الأوجه، حيث فشل الفرقاء السياسيون في الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة بعد انتخابات جرت في مايو، منيت خلالها الأحزاب المدعومة إيرانيا بتراجع لصالح تحالف يقوده التيار الصدري الذي ينادي باستقلال بغداد عن التبعية لطهران.

احتجاجات في طهران والبصرة

ومثلما تشهد إيران غليانا شعبية نتيجة الفساد وسوء الإدارة، اندلعت احتجاجات عارمة في العاصمة العراقية بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، احتجاجا على تردي الخدمات والبطالة والفساد.

وانتفض أهالي محافظات البصرة والمثنى والنجف وذي قار، مطالبين بإنهاء النفوذ الإيراني في البلاد، محملين طهران مسؤولية الخراب الاقتصادي الذي حل ببلادهم التي كانت في طليعة مصدري النفط في العالم يوما ما.

ويعاني أبناء المحافظات الجنوبية من أزمة نقص مستفحلة في الكهرباء، زادتها الشركات الحكومية الإيرانية بقطع إمدادات الكهرباء بسبب تأخيرات في المدفوعات العراقية.
ومن جهة اخرى، أدت ممارسات إيرانية إلى زيادة ملوحة نهر شط العرب، مما تسبب في أزمة مياه خطيرة في البصرة والمحافظات المجاورة.

حزب الله ومثلث الفشل

ومثلما حدث في العراق، فقد امتد مثلث الفراغ السياسي والانهيار الاقتصادي وعدم الاستقرار الأمني إلى لبنان الذي يرزح تحت سيطرة ميليشيا حزب الله الإيرانية المدرجة على لوائح الإرهاب.
ورغم تأسيس إيران لحزب الله عام 1982 في الجنوب اللبناني، فقد انكشفت الميليشيا التي كانت ترفع شعارات مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، عندما نشبت الحرب السورية.

وانقلب حزب الله على مبدأ "النأي بالنفس" الذي أعلنه لبنان بعد بداية الصراع السوري، وانخرط في الحرب بأوامر إيرانية دعما لقوات الرئيس بشار الأسد في مواجهة المعارضة المسلحة.

وإلى جانب الدمار والدماء التي سالت من المدنيين في سوريا على أيدي عصابات حزب الله والميليشيات الإيرانية الأخرى، شهد اللبنانيون في الجنوب والضاحية الجنوبية في بيروت أبناءهم عائدين في نعوش يلفها علم الميليشيا التي تكبدت خسائر لم تشهدها من قبل.

رائحة طائفية

وقوضت الميليشيات الإيرانية التي تمتلك عتادا عسكريا ضخما من دور الجيش اللبناني في حماية البلاد، لينسحب ذلك أيضا على الوضع السياسي.

فقد عاد لبنان إلى الفراغ السياسي مجددا، على وقع تعنت حزب الله في مفاوضات تشكيل الحكومة بعد إجراء أول انتخابات برلمانية منذ تسع سنوات، أدت نتائجها إلى تكريس هيمنة ميليشيات حزب الله على المشهد اللبناني وسلطت الضوء على النفوذ الإقليمي المتزايد لإيران.

وتقف عقبة التشكيل الحكومي أمام ملفات اقتصادية ملحة تحتاج إلى قرارات حكومية عاجلة، إذ يحتاج البلد المتضرر من حرب مستمرة منذ سبع سنوات في الجوار السوري، والمستضيف لأكثر من مليون لاجئ إلى الحصول على ما يزيد على 11 مليار دولار؛ تعهد بها المانحون في مؤتمر باريس في أبريل الماضي من أجل إصلاح البنى التحتية وإقامة محطات للطاقة.

ويشترط المانحون الدوليون الحصول على التزام من الحكومة اللبنانية فيما يتعلق بإصلاحات اقتصادية في بلد تجاوز الدين العام فيه 82 مليار دولار، بنسبة 152 في المئة إلى الناتج المحلي، وهي ثالث أكبر نسبة في العالم، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي.

وبعدما فاحت رائحة القمامة في شوارع العاصمة والمدن الأخرى، منذ أن استفحلت الأزمة عام 2015، في غياب إجراءات حكومية ناجحة، دخل لبنان في أزمة نقص حاد في الكهرباء اضطرته إلى تأجير بواخر لتوليد الطاقة لسد العجز.

وبينما يشكل عجز لبنان في قطاع الكهرباء 36 مليار دولار، فإن التعامل السياسي مع الأزمة لم يتجاوز عناوين الفساد ونهب المال العام.

وهكذا.. واقع عراقي لبناني يقطر بؤسا بعد عقود من التدخلات الإيرانية، وحقائق سياسية واقتصادية تجسد فشلا مؤكدا في البلدين، وتبشر بإخفاق منتظر لمشروع يلتحف زورا بالدين، ولا يقدم سوى الدمار الأكيد.