تعد أميركا اللاتينية واحدة من أكثر المناطق تأثراً بالسياسات الأميركية، في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب التي تتسم بتوجهاتها الحادة تجاه قضايا الهجرة والتجارة والعلاقات الإقليمية.
تتصاعد التوترات حالياً مع تصعيد ترامب لإجراءاته ضد بعض البلدان، مما يثير قلقاً واسعاً لدى حكومات المنطقة بشأن مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة، خاصة مع التهديدات باستخدام القوة الاقتصادية والعسكرية.
وفي مواجهة هذه التحديات، تتسارع الجهود الدبلوماسية الإقليمية لبلورة رد موحد على ما يعتبره قادة المنطقة سياسة عدائية غير مسبوقة.
في هذا السياق، يعقد رؤساء دول أميركا اللاتينية قمة طارئة، الخميس؛ للرد على عمليات الترحيل الجماعي للمهاجرين التي يشنها الرئيس ترامب، في الوقت الذي يترنح فيه العالم تحت وطأة تكتيكاته "العدوانية" تجاه اثنين من حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة.
فرض ترامب رسوما جمركية بنسبة 25 بالمئة على التجارة مع كولومبيا وفرض عقوبات على التأشيرات وغيرها يوم الأحد بعد أن منع الرئيس اليساري جوستافو بيترو الرحلات الجوية العسكرية الأميركية التي كانت ترحل المهاجرين. وانتهت المواجهة في غضون ساعات بعد أن رضخت بوغوتا لمطالب واشنطن.
بحسب تقرير لـ "فايننشال تايمز" البريطانية، فقد أدى الصدام الدرامي، الذي دار معظمه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى زعزعة استقرار دول أميركا اللاتينية التي كانت بالفعل خائفة من تهديدات ترامب باستخدام القوة العسكرية لإعادة السيطرة الأميركية على قناة بنما وفرض رسوم جمركية باهظة على المكسيك، أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة.
ونقل التقرير عن دبلوماسي إقليمي كبير في واشنطن، قوله: "هناك قدر كبير من القلق بين سفارات أميركا اللاتينية في واشنطن.. يبدو أننا عدنا إلى عام 1897 وعهد الرئيس ويليام ماكينلي، الذي غزا كوبا والفلبين".
دعت رئيسة هندوراس شيومارا كاسترو إلى عقد قمة طارئة لقادة المنطقة بصفتها رئيسة مجموعة دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (سيلاك)، بناء على طلب من بيترو. وقالت في مقابلة تلفزيونية إن الاجتماع سيناقش الهجرة والبيئة والوحدة الإقليمية.
وبحسب مايكل شيفتر، وهو زميل بارز في مركز الحوار بين الأميركيتين في واشنطن، فإنه:
- من غير المرجح أن يخضع زعماء أميركا اللاتينية لترامب.
- "إنهم سيحاولون إيجاد التوازن، مع الاعتراف بأنه من ناحية، يتعين عليهم أن يكونوا عمليين لأن ترامب قادر بالفعل على فرض العقوبات، وهو ما سيكون مؤلماً للغاية لهذه البلدان. ومن ناحية أخرى، يتعين عليهم حقًا إنقاذ ماء الوجه وإظهار فخرهم الوطني وحماية السيادة".
موقف كولومبيا
- أبدت كوبا وفنزويلا، حليفتا روسيا، دعمهما السريع للرئيس الكولومبي بيترو، وهو صاحب سجل طويل من الانتقادات اللاذعة للسياسة الأميركية على وسائل التواصل الاجتماعي في قضايا تتراوح من غزة إلى الحرب على المخدرات. ولكن أكبر قوتين في المنطقة، البرازيل والمكسيك، لم تعلقا علناً.
- وقال دبلوماسيون إنهم يريدون تنسيق المواقف بشكل سري وترك الأمور تستقر قبل اتخاذ موقف علني.
- ووفق دبلوماسي إقليمي ثان، فلقد :أعطى بيترو درسًا في كيفية عدم التعامل مع ترامب.. لقد خاض معركة على وسائل التواصل الاجتماعي دون أن يكون لديه وسيلة لمواصلة معركته".
- وأشار العديد من المعلقين إلى أن الزعيم الكولومبي قوض موقفه من خلال موافقته في وقت سابق على استخدام رحلات جوية عسكرية أميركية لترحيل المهاجرين، والتي يعود تاريخها إلى سنوات في ظل الإدارات الديمقراطية والجمهورية.
وتعتمد كولومبيا، وهي تقليديا أقرب حليف للولايات المتحدة في أميركا الجنوبية، بشكل كبير على السوق الأميركية في صادراتها من النفط والقهوة والزهور المقطوفة، وليس لديها نفوذ يذكر على واشنطن.
وعلى النقيض من ذلك، يُنظَر إلى رئيسة المكسيك كلوديا شينباوم في المنطقة باعتبارها تعاملت بشكل أفضل مع ترامب. فقد أوضحت خلافاتها مع السياسة الأميركية في تصريحات عامة مدروسة، في حين وافقت سراً على العديد من مطالب ترامب بشأن استعادة المهاجرين ومكافحة الاتجار بالفنتانيل.
علاقات صدامية
من جانبه، يقول الباحث المتخصص في شؤون أميركا اللاتينية، الدكتور حمدي عمر أحداد، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن العلاقة بين الرئيس الأميركي العائد أخيراً إلى البيت الأبيض، دونالد ترامب، ودول أمريكا اللاتينية تبدو مثيرة للجدل وتحمل ملامح صدامية واضحة، لا سيما في ظل السياسات المتشددة التي يعتزم الرئيس تنفيذها خلال ولايته الحالية التي بدأت في العشرين من يناير الجاري.
يشير أحداد إلى أن:
- وعود الرئيس ترامب بإيقاف الهجرة غير الشرعية عبر الحدود الجنوبية وإجراءات الترحيل القسري، قد أدت إلى خلافات حادة مع دول عديد من أميركا اللاتينية.
- على سبيل المثال، رفضت كولومبيا استقبال المرحلين على متن طائرات عسكرية أميركية قبيل أيام، معتبرة ذلك تصرفاً استفزازياً ومبالغاً فيه، ما دفع الرئيس الأميركي إلى التهديد بفرض رسوم جمركية إضافية على المنتجات الكولومبية، قبل التراجع عنها بعد موافقة كولومبيا.
- وفيما يتعلق بالبرازيل، فإن إدارة ترامب تواجه انتقادات بسبب "المعاملة المهينة" التي يتعرض لها مواطنوها المرحلون، مما قد يؤدي إلى توترات مع الرئيس البرازيلي الحالي لولا دا سيلفا، الذي رغم امتعاضه، أكد رغبته في تجنب أي خلاف مع الولايات المتحدة، مشيراً إلى أهمية الحفاظ على العلاقة التاريخية بين البلدين.
- فنزويلا قد تكون الأكثر تأثراً بسياسات ترامب، حيث سبق للرئيس الأميركي أن هدد بالتدخل العسكري لإسقاط نظام مادورو، مستشهداً بمواقف سابقة مثل إعلان مستشار الأمن القومي الأسبق جون بولتون عن خطط دعم المعارضة الفنزويلية.
- أما بالنسبة لكوبا، فقد عادت إلى قائمة "الدول الراعية للإرهاب" بقرار من ترامب، في تكرار لسياسات استمرت خلال ولايته الأولى، مما يزيد من تعقيد العلاقات بين البلدين.
وحول قناة بنما، يعتبر الدكتور أحداد أن إعلان ترامب عن رغبته في السيطرة الأميركية على القناة يمثل تصعيداً خطيراً قد يعيد للأذهان التدخلات العسكرية الأميركية في المنطقة خلال القرن العشرين. ويشير إلى أن هذا التوجه يأتي في سياق الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، حيث يتهم ترامب الشركات الصينية بالاستحواذ على تشغيل القناة بطريقة غير قانونية.
- تعتبر بنما، التي يبلغ عدد سكانها 4.5 مليون نسمة فقط ولا تمتلك جيشاً وتعتمد بشكل كبير على التجارة والاستثمار الأمريكي، عرضة بشكل خاص لمطالب ترامب باستعادة واشنطن السيطرة على القناة التي بنتها منذ أكثر من قرن من الزمان.
- زعم الرئيس الأميركي أن الصين تدير القناة الآن وأن الشحن الأميركي "يتعرض للنهب" بسبب الرسوم المفروضة لاستخدام الممر المائي.
ويختتم الباحث المتخصص في شؤون أميركا اللاتينية، حديثه بالتأكيد على أن العلاقات بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية مرشحة لمزيد من التوتر، في ظل توجهات الإدارة الأميركية التي تعتمد نهجاً أحادياً يتجاهل التعقيدات الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة.
موقف الصين
في سياق متصل، قال دبلوماسيون ومحللون إن الصين وسعت بشكل كبير تجارتها واستثماراتها في أميركا اللاتينية هذا القرن، ومن المرجح أن تنظر بكين إلى التحركات غير المتوقعة لترامب باعتبارها فرصة مثالية لتقديم نفسها كشريك أكثر موثوقية، بحسب الصحيفة البريطانية.
وقال شيفتر: "إن مجموعة دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي هي المنصة بالنسبة للصين في أميركا اللاتينية، وبالتالي فإن قمة يوم الخميس هي نوع من الوكالة لإظهار لواشنطن أنه إذا كانت ستعاقبنا حقا، فإن الصين مستعدة لملء الفجوة والمساهمة أكثر مما فعلت بالفعل".
وفي هذا السياق، يشير تقرير للشركة الصينية الاستشارية، thinkchina، إلى أن:
- نفوذ الصين في أميركا اللاتينية تزايد في السنوات الأخيرة، مستغلة الإهمال الأميركي والخطوات الخاطئة التي اتخذتها، الأمر الذي يوفر فرصا وتحديات لنظرائها الإقليميين.
- الآن، تبدو إدارة ترمب مستعدة لإعادة الانخراط، مدفوعة بالمخاوف بشأن الدور المتزايد لبكين.
- مع ذلك، فإن النهج السياسي الذي يجمع بين الخطاب المواجه والتدابير المثيرة للانقسام قد لا يؤدي إلى عزل الشركاء الإقليميين فحسب، بل قد يؤدي أيضا إلى ترسيخ موقف الصين بشكل أكبر، مما يؤدي إلى تكثيف المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في أميركا اللاتينية وتعميق الاستقطاب، الأمر الذي قد يخلف آثارا ضارة على التنمية والاستقرار الإقليميين.
جيران الولايات المتحدة
يقول أستاذ العلاقات الدولية، الباحث المتخصص في شؤون أميركا اللاتينية، الدكتور محمد عطيف، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن سياسات الرئيس الأميركي تجاه دول أميركا اللاتينية أثارت جدلاً واسعاً وتفاوتاً في ردود الفعل بين دول المنطقة، مشيراً إلى أن هذه السياسات، التي ركزت على قضايا مثل الهجرة والتجارة، علاوة على مكافحة الجريمة المنظمة، خلقت تحديات دبلوماسية واقتصادية كبيرة.
ويوضح أن كولومبيا تعرضت لضغوط شديدة من إدارة ترامب لقبول رحلات الترحيل العسكرية للمهاجرين الكولومبيين، ما أدى إلى توتر العلاقات بين البلدين، مضيفاً أن التهديدات بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 25 بالمئة على المنتجات الكولومبية أجبرت الحكومة الكولومبية على تقديم تنازلات، الأمر الذي يعكس استخدام الإدارة الأميركية للقوة الاقتصادية لتحقيق أهدافها.
كما يؤكد أن استجابة دول أميركا اللاتينية لسياسات ترامب كانت متفاوتة، حيث فضلت بعض الدول التعاون مع واشنطن، في حين رفضت دول أخرى مثل كوبا وفنزويلا الانصياع لهذه السياسات، مما دفعها إلى تعزيز التعاون الإقليمي وتنويع شراكاتها الاقتصادية مع قوى مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي.
ووفق عطيف، فإن سياسات ترامب، التي تحمل طابعاً أحادياً وتستخدم العقوبات الاقتصادية كأداة ضغط، تثير مخاوف من إحياء مبدأ مونرو وتحويل أميركا اللاتينية إلى "حديقة خلفية" للولايات المتحدة، مضيفاً: هذه السياسات قد تؤدي إلى تعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي لبعض دول المنطقة عن النفوذ الأميركي، مع استمرار التحديات التي تفرضها هذه السياسات على العلاقات الثنائية والإقليمية.
وفي سياق آخر، يتحدث عطيف عن جيران الولايات المتحدة، بالإشارة إلى المكسيك التي يوضح أن نهجها الحذر في التعامل مع إدارة ترامب، بقيادة الرئيسة كلوديا شينباوم، كان يهدف إلى تجنب المواجهة المباشرة. فقد اختارت المكسيك استراتيجية التفاوض، مستفيدة من خبرات الإدارات السابقة في التعامل مع قضايا مثل الهجرة والاتجار بالمخدرات.
ويشير إلى أن دول أميركا الوسطى، مثل السلفادور وغواتيمالا وهندوراس، عارضت بشدة سياسات ترامب الصارمة، خاصة فيما يتعلق بالهجرة وبناء الجدار الحدودي. وأكد أن هذه السياسات قد تؤدي إلى زعزعة العلاقات الاقتصادية بين هذه الدول وواشنطن.