تشهد الصناعات العالمية تحديات متزايدة في ظل التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، مما يهدد بترتيبات جديدة في موازين القوة الاقتصادية.
يتصاعد هذا التحدي نتيجة للضغط الناتج عن المنافسة الحادة بين الدول المتقدمة والاقتصادات الصاعدة، في مجالات التصنيع والموارد الحيوية.
في الوقت الذي تسعى فيه القوى الغربية إلى الحفاظ على سيطرتها على الصناعات الأساسية، تتزايد محاولات الدول مثل الصين وروسيا لتوسيع نفوذها في القطاعات الاستراتيجية، مما يعقّد قدرة الاقتصادات الكبرى على التكيف مع هذه التحولات.
هذه التفاعلات تفتح المجال لفرص وتحديات جديدة، تتطلب استراتيجيات مرنة تعزز من قدرة الدول على تأمين صناعاتها الأساسية وضمان استدامتها في المستقبل، وهو ما تضعه دول القارة العجوز بشكل خاص نصب أعينها في ظل تزايد المنافسة مع الصين.
تحديات متزايدة في القطاع الصناعي
تقرير لمعهد الاتحاد الأوروبي للدراسات (وهو مركز أبحاث السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، يقدم تحليلات ورؤى نقدية لتوجيه الخيارات الاستراتيجية للاتحاد)، ناقش التحديات المتزايدة في مجال التصنيع والموارد الاستراتيجية على مستوى العالم، خصوصاً في ظل المنافسة المتصاعدة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية من جهة أخرى.
تناول التقرير التحديات الاستراتيجية التي تفرضها السيطرة الصينية على الصناعات الأساسية، وذكر أنه:
- على الرغم من التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة، فإن حصتها في الإنتاج العالمي قد انخفضت بشكل كبير.
- أصبح "التحالف المعادي للغرب"، بقيادة الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، بارعاً في استغلال قدراته في الصناعات منخفضة القيمة ولكن الاستراتيجية مثل المعادن.
- هذه الدول تعتمد على دعم متبادل، حيث تزود الصين روسيا بالإلكترونيات الدقيقة، وإيران بالطائرات بدون طيار، وكوريا الشمالية بالقوى العاملة والذخائر. هذا التنسيق سمح لهذه الدول بمواصلة عملياتها العسكرية رغم العقوبات الغربية.
مسألة رئيسية في التقرير هي التأثير المتزايد للصين على الموارد الحيوية. في 2024، فرضت الصين قيوداً على تصدير مواد مثل الأنتيمون والمعادن النادرة، التي تعتبر أساسية في صناعة الأسلحة والذخائر، موضحاً أن:
- سيطرة الصين على إنتاج هذه المواد، إلى جانب قدرتها على التحكم في معظم القدرة التصنيعية العالمية، تشكل تحدياً كبيراً للدول الغربية.
- إذا لم تتخذ دول مجموعة السبع خطوات حاسمة، فإن نفوذ الصين سيزداد، مما يضعف قدرة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الحفاظ على قاعدة صناعية قوية.
من ناحية أخرى، يواجه الاتحاد الأوروبي قيوداً أكبر، خاصة بسبب تكاليف الطاقة المرتفعة، واللوائح البيئية الصارمة، والعمليات البيروقراطية البطيئة التي تعرقل جهود إعادة التصنيع.
تعتمد أوروبا بشكل كبير على الطاقة المستوردة، مما يجعل من الصعب على المنطقة المنافسة مع الولايات المتحدة في مجال التصنيع.
ودعا التقرير -الذي اطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى إمكانية عقد اتفاق صناعي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتحفيز التصنيع خارج نطاق الصين وروسيا.
ومن خلال توحيد السياسات العامة للمشتريات، يمكن لكل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تعزيز إنتاج المواد والمكونات الأساسية، مثل المعادن النادرة، بعيداً عن نفوذ الصين، وفق التقرير، الذي شدد على أنه يمكن لدول مثل اليابان، التي تمتلك قدرات قوية في مجال المغناطيسات الدائمة، وأميركا الشمالية، التي تمتلك رواسب المعادن النادرة، أن تلعب دوراً مهماً في هذا الجهد.
ومع ذلك، يتعين على الاتحاد الأوروبي التحرك بسرعة، لأن عدم التوصل إلى اتفاق قد يتركه في وضع غير مريح، حيث يعتمد على المواد الخام من الصين أو الولايات المتحدة.
وبينما كانت أوروبا في الماضي تنتقد نهج ترامب، خاصة فيما يتعلق بالرسوم الجمركية، يجب عليها الآن التركيز على التعاون مع المسؤولين الأميركيين المهتمين بالأمن لمواجهة هذه التحديات الاستراتيجية. وإذا لم يتحرك الاتحاد الأوروبي بسرعة، فإنه يواجه خطر أن يتجاوزته الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها الصناعية، مما يترك الاتحاد الأوروبي دون القدرة على مواجهة التهديدات المتزايدة من الصين وروسيا في بيئة عالمية أكثر خطورة.
ويبرز التقرير أهمية إعادة التصنيع وتأمين القدرات التصنيعية الحيوية في مواجهة التحديات الاستراتيجية العالمية، لافتاً إلى أن ممارسات الصين الاحتكارية، إلى جانب الديناميكيات العالمية المتغيرة، تتطلب تنسيقاً بين الغرب لحماية مصالحه الاقتصادية والأمنية. في حال فشل هذا التنسيق، قد يجد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نفسيهما غير قادرين على مواجهة التهديدات المتزايدة من المحور المعادي للغرب، مما سيكلفهما ثمناً جيوسياسياً واقتصادياً باهظاً.
التقدم التكنولوجي
من بروكسل، أكد الخبير في الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، صعوبة منافسة أوروبا للصين في المجال الصناعي، مرجعاً ذلك إلى التقدم التكنولوجي الكبير الذي حققته الصين واستثماراتها الضخمة في هذا القطاع، والتي تفوق بكثير ما تخصصه الدول الأوروبية.
وأوضح بركات أن الصين استطاعت أن تحجز لنفسها مكانة قوية في صناعة السيارات على سبيل المثال؛ إذ تنافس شركات أوروبية عريقة مثل بي إم دبليو وأدت إلى إغلاق بعض مصانعها بشكل غير مباشر. وأشار إلى أن محاولات الاتحاد الأوروبي لحماية صناعاته، مثل فرض رسوم جمركية إضافية على المنتجات الصينية، لن تكون كافية لمواجهة التحدي الصيني.
كما لفت الانتباه إلى مشروع "الحزام والطريق" الصيني، الذي يمثل استثماراً ضخماً في البنية التحتية العالمية، ويساعد الصين على توسيع نفوذها الاقتصادي في آسيا وأفريقيا وأوروبا. وأكد أن الاتحاد الأوروبي، رغم محاولاته لمواجهة هذا المشروع، يتأخر كثيراً عن الصين في هذا المجال.
واختتم بركات حديثه بالتأكيد على أن الاعتماد الكبير لدول الاتحاد الأوروبي على المنتجات الصينية بأسعارها التنافسية يجعل من الصعب عليها التخلي عن هذا الاعتماد، مما يعقد مهمة منافسة الصين اقتصادياً.
حرب باردة
ومن لندن، أكد الخبير الاقتصادي، أنور القاسم لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن العلاقات الاقتصادية بين دول أوروبا والصين تمر حالياً بفترة من التوتر تشبه الحرب الباردة، وقد تتطور إلى حرب اقتصادية حقيقية، موضحاً أن قدرة الصناعات الصينية على الإنتاج بتكاليف منخفضة، بفضل الأيدي العاملة الرخيصة وتوفر المواد الأولية، بالإضافة إلى التطور التكنولوجي السريع، تجعل أوروبا في موقف صعب من حيث التنافس.
وأشار إلى أن الصراع يتجلى بوضوح في قطاع السيارات الكهربائية، إذ يتهم الأوروبيون الصين بتقديم دعم حكومي كبير لصناعة السيارات الكهربائية، يصل إلى أكثر من 230 مليار دولار، مؤكداً أنه إذا استمر هذا الدعم، فقد يؤدي إلى إغلاق مصانع في أوروبا بسبب عدم القدرة على المنافسة في الأسعار. وفي هذا السياق، يلوح الأوروبيون بفرض ضرائب تصل إلى 45% على السيارات الكهربائية الصينية.
وأضاف: الاتحاد الأوروبي يواجه تحديات كبيرة، فعلى الرغم من أن حجم الناتج المحلي الإجمالي الكبير للاتحاد يجعله منافساً للصين، إلا أن الفجوات بين اقتصادات الدول الأعضاء، وارتفاع مستويات الدين العام وتراجع الإنتاجية، وارتفاع معدلات التضخم، تتطلب اتخاذ قرارات حكيمة تجنب الدخول في صراعات تجارية قد تضر بمستقبل المنطقة الاقتصادي.
وشدد القاسم على أهمية تطوير أدوات الإنتاج والتعاون مع الاقتصادات الناشئة، والاتجاه نحو استخدام الذكاء الاصطناعي في الصناعات، خاصة في الدول الأوروبية الأقل قوة. كما حذر من الانجرار إلى الحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، التي من شأنها أن تلحق الضرر بالجميع.
واختتم بالتأكيد على أنه لدى دول أوروبا أوراقاً قوية (..) غير أن الدخول في حرب استنزاف اقتصادي سيؤدي إلى تكبد الاقتصاد الدولي ثمناً باهظاً، ما لم يتم التوصل إلى اتفاقات اقتصادية تنموية تعود بالنفع على جميع الأطراف.