سقف قاعة "رويال فيستيفال هول" في مركز ساوثبانك تعرض للتسريب منذ فترة، وتم ترقيعه بشكل مؤقت في انتظار توفر الأموال اللازمة لإصلاحه بشكل كامل. وتُعد هذه القاعة واحدة من أكبر المرافق الفنية المدعومة حكوميًا في المملكة المتحدة.
يُستخدم هذا الموقف كإشارة دقيقة لما يشعر به الكثيرون في قطاع الفنون والثقافة والصناعات الإبداعية في بريطانيا بعد 14 عامًا من حكم المحافظين.
تقول إيلين بيدل، الرئيسة التنفيذية لمركز ساوثبانك، الذي شهد تراجعًا بأكثر من 40 بالمئة في التمويل الفعلي خلال العقد الماضي: "نحن بحاجة إلى المزيد من الأموال، لكن هناك آخرين بحاجة إليها أيضًا". وترى أن المشكلة تكمن في عدم الاعتراف الكافي بأهمية الفنون والثقافة، مضيفة: "نحن ناجحون للغاية في هذا المجال في بلادنا".
في الخمسينيات، وبعد انتهاء الحرب، وضعت حكومة كليمنت أتلي خططًا لإنشاء هذا المرفق في لندن.
وتأمل بيدل أن تتبع الإدارة الجديدة نهجًا مشابهًا تجاه قطاع الثقافة.
قاعة "رويال فيستيفال" التي تتسع لـ2700 مقعد، شهدت عزف رئيس الوزراء الحالي، كير ستارمر، على الناي في شبابه، وهي تجربة أساسية أسهمت في تشكيل رؤيته حول أهمية هذا القطاع. وفي مارس الماضي، أكد ستارمر للمهنيين في الصناعات الإبداعية أن هذا القطاع سيكون جزءًا أساسيًا من استراتيجية حزب العمال للنمو. لكن كما أوضحت الإدارة الجديدة مرارًا، فإن الأموال محدودة، وفق تقرير مُطول لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، اطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية".
تقول وزيرة الثقافة البريطانية، ليزا ناندي، وهي تتنهد من قمة برج بلاكبول في أغسطس بعد أنباء عن عودة فرقة "أواسيس" الشهيرة للغناء مجددًا: "كل مكان فيه تسريب".
كانت فرقة "أواسيس" في أوج شهرتها عندما تولت حكومة حزب العمال السلطة في العام 1997. انتهى حينها حكم المحافظين الذي دام 20 عامًا، لتبدأ حقبة "كول بريتانيا"، وهي فترة ذهبية في الموسيقى والموضة وصناعة الأفلام. رد رئيس الوزراء آنذاك توني بلير بإنشاء أول فريق عمل للصناعات الإبداعية، الذي قام بتعريف مجموعة من الفنون والثقافة والإعلام والتكنولوجيا ذات الصلة لأول مرة.
والآن المسؤولون في الصناعة يأملون في أن تشهد حكومة العمال الجديدة بقيادة كير ستارمر نهضة مشابهة، لكنهم يحرصون على التأكيد أن دعم الفنون ليس لأجل الفن فقط، بل لدعم جزء مهم ومزدهر من الاقتصاد.
قطاع الصناعات الإبداعية
قطاع الصناعات الإبداعية متنوع للغاية ويشمل الإعلان، الهندسة المعمارية، التحف، التصميم، الأزياء، الأفلام، البرمجيات، الموسيقى، الفنون الاستعراضية، النشر، التلفزيون والإذاعة. وتُقدر قيمته بحوالي 125 مليار جنيه إسترليني، أي أكبر من قطاعات العلوم الحيوية، تصنيع السيارات، الفضاء، والنفط والغاز مجتمعة، ويوفر فرص عمل لما يقرب من 2.3 مليون شخص.
ليزا ناندي، وزيرة الثقافة، وعدت بتقديم الدعم قائلة: "لقد كانت البلاد تقوم بذلك بنفسها"، في إشارة إلى إنجازات الصناعات الإبداعية. وأضافت: "تخيلوا ما الذي يمكنهم تحقيقه مع حكومة تسير إلى جانبهم".
في أول يوم لها في منصبها الجديد، أعلنت ناندي أن "عصر الحروب الثقافية قد انتهى"، في إشارة إلى الحكومة السابقة بقيادة المحافظين التي كانت، بحسب ما ذكره مسؤول تنفيذي كبير رفض الكشف عن هويته، دائمًا "تتحدث عن التوجهات اليسارية وتبحث عن من تصفهم بالـليبراليين في كل مكان وتحاول خفض تمويل هيئة الإذاعة البريطانية .
في الأسابيع التالية، دعت ناندي أكثر من 150 مؤسسة، بما في ذلك وارنر بروس، أمازون، بي بي سي، باراماونت، سكاي، وقناة 4، إلى مانشستر لمناقشة الإمكانيات الاجتماعية والاقتصادية لقطاع الثقافة.
وفي برج بلاكبول، شددت على أن حكومة العمال ستعمل جنبًا إلى جنب مع القطاع الفني والإبداعي في المدن والبلدات في جميع أنحاء المملكة المتحدة.
ما الذي يحتاجه القطاع الثقافي؟
ويشير تقرير الصحيفة إلى أن:
- القطاع الثقافي يحتاج إلى أكثر من مجرد كلمات دافئة ونوايا حسنة.
- المطلعون على الصناعة يقولون إن دعم العمال يجب أن يترافق مع استثمارات أو الوصول إلى صناديق تمويل قادرة على تعزيز مكانة المملكة المتحدة البارزة في الأفلام، التلفزيون، الموسيقى، الألعاب، الموضة، الفنون، والإعلانات.
تقرير من جامعة وارويك، بالتعاون مع حملة دعم الفنون، أشار إلى أن قطاع الفنون والثقافة في المملكة المتحدة في أزمة، حيث خفضت الحكومة ميزانيات الثقافة بنسبة 6 بالمئة منذ 2010، مقارنة بزيادة تصل إلى 70 بالمئة في دول مثل ألمانيا وفرنسا.
ويقول جاك غامبل، مدير حملة دعم الفنون: "قطاع الفنون في المملكة المتحدة يعمل بموارد شحيحة للغاية".
ويوافق توم أديولا، المدير التنفيذي في مجال الإعلام والتكنولوجيا وعضو مجلس إدارة قناة 4 العامة، قائلاً: "كان هناك تراخٍ بدلاً من تعزيز قوتنا. من الموسيقى إلى التلفزيون، يمكنك رؤية علامات تراجع القوة والنفوذ على المستوى الدولي".
الآن، يقع على عاتق ناندي عكس هذا الوضع. وتؤكد: "من الأهمية القصوى أن ننجح في ذلك، ليس فقط بسبب هشاشة القطاع، ولكن لأن الفرص المتاحة هائلة".
يحرص المسؤولون التنفيذيون في الصناعات الإبداعية على أن تعترف الحكومة بالفوائد الاقتصادية لدعم هذا القطاع، مثل خلق فرص العمل، وزيادة الصادرات، وتنشيط السياحة، وجذب الاستثمارات الأجنبية.
كارولين نوربري، الرئيسة التنفيذية لمنظمة Creative UK غير الربحية، التي تدعم القطاع الإبداعي في المملكة المتحدة، تشير إلى أنه "بإمكاننا توفير حلول لبعض أكبر التحديات المشتركة في المملكة المتحدة". وتضيف: "هذا القطاع هو المفتاح لتحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز الصادرات العالمية".
مكانة المملكة المتحدة
تقرير "فاينانشال تايمز" أضاف: المملكة المتحدة تُعد واحدة من ثلاث دول فقط تُصدر الموسيقى بشكل صافي، وأكبر مصدر للكتب، وتحتل المرتبة الثانية عالميًا بعد الولايات المتحدة في صناعة الإعلانات.
كما أن قطاع الفنون الأدائية في المملكة المتحدة يقدر بـ9.5 مليار جنيه إسترليني ويدعم أكثر من 240 ألف وظيفة على مستوى البلاد. كما أعلنت رابطة "لايف" – الهيئة الممثلة لصناعة الموسيقى الحية البريطانية – أن التأثير الاقتصادي للقطاع ارتفع بنسبة 17 بالمئة ليصل إلى 6.1 مليار جنيه إسترليني في العام الماضي.
أما في مجال السينما، فإن المملكة المتحدة تبرز بقوة على الساحة العالمية، حيث تم تصوير أكثر من نصف الأفلام العشرين الأهم العام الماضي جزئيًا على الأقل في بريطانيا، بما في ذلك فيلم "باربي".
وتستثمر شركات عملاقة مثل ديزني، وارنر بروس، وكومكاست مليارات الجنيهات سنويًا في استوديوهات مثل Elstree، Shepperton، وLeavesden. ورغم أن الحوافز الضريبية الجذابة كانت عنصرًا رئيسيًا في جذب هذه الشركات، فإن مرافق الإنتاج المتطورة والمهارات العالمية الموجودة في المملكة المتحدة كانت المحرك الرئيسي لاستمرار الإنتاج.
ومع ذلك، يحذر المسؤولون الإعلاميون من أن مكانة المملكة المتحدة لا يمكن اعتبارها مضمونة، مع تقديم حوافز مماثلة واستثمارات أكبر في دول منافسة داخل الاتحاد الأوروبي وآسيا. ويشير الكثيرون إلى نجاح كوريا الجنوبية، حيث حققت موسيقى "كي-بوب" وعروض مثل "Squid Game" على نتفليكس شهرة عالمية.
ونقل التقرير عن الخبير الإعلامي المخضرم والمشارك في رئاسة مجلس الصناعات الإبداعية المدعوم من الحكومة، السير بيتر بازالجيت، قوله: "نحن دولة إبداعية، لكن هذا لا يحدث في فراغ. الدول الأخرى تلحق بنا بسرعة".
بازالجيت يرى أن من المهم تضمين الصناعات الإبداعية في الاستراتيجية الصناعية القادمة لحزب العمال، مما سيسمح للقطاع بالاستفادة من الاستثمارات الحكومية عبر صندوق الثروة الوطنية الجديد، الذي تم إنشاؤه لتمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى.
كما يشير إلى ضرورة تطوير وتسويق الابتكارات في مجالات مثل الإنتاج الافتراضي في صناعة الأفلام؛ واستخدام الذكاء الاصطناعي في الموسيقى وألعاب الكمبيوتر، وكذلك الطباعة ثلاثية الأبعاد والمواد المستدامة في مجال الموضة. بالإضافة إلى ذلك، تبنت قطاعات التعليم والإعلانات التكنولوجيا الجديدة بسرعة مثل الذكاء الاصطناعي، مما ساهم في إنشاء حقوق ملكية فكرية مربحة.
لكن لتحقيق ذلك، يحتاج القطاع إلى تحسين آليات التمويل الحالية. يصف بازالجيت المؤسسات الحالية مثل بنك الأعمال البريطاني UK Research and Innovation بأنها "غير مناسبة" لدعم الصناعات الإبداعية. ويوضح أن معايير البنك لا تلبي احتياجات أو نماذج الشركات الإبداعية، في حين أن تعريف البحث والتطوير للحصول على تمويل من خلال الإعفاءات الضريبية ضيق للغاية.
يختتم بازالجيت قائلاً: "هذا القطاع يستحق استثمارًا أعلى. نحن قطاع نمو، لكن المؤسسات البريطانية لم تلحق بنا بعد".
وفي بيانها الانتخابي، التزمت حكومة العمال بمراجعة مجلس الفنون في إنجلترا، وهو الوسيلة الرئيسية التي تستخدمها الحكومة لتمويل قطاع الفنون بشكل محدد. لكن ناندي أوقفت هذه المراجعة وبدلاً من ذلك، كلفت بدراسة أوسع تشمل تمويل القطاع الثقافي والفني بشكل عام.
إرث المحافظين
من لندن، أشار الخبير الاقتصادي أنور القاسم في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن حزب المحافظين قد ترك البلاد في حالة من التدهور على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وأضاف القاسم أن قطاع الثقافة والفن، الذي يعد جزءًا أساسيًا من تاريخ المملكة، قد شهد ضعفًا كبيرًا في الفترة الأخيرة نتيجة لعدة عوامل، أبرزها تأثيرات عملية البريكست السلبية على هذين القطاعين الحيويين وإهمال المحافظين لمسائل تمويلهما.
وأوضح القاسم أن البريطانيين لم يعودوا قادرين على الاستفادة من الفضاء الثقافي الأوروبي المفتوح بين الدول الأعضاء الباقية في الاتحاد الأوروبي، والذي كان قد أسهم في تعميق السلام بين الأمم التي تعايشت صراعات عنيفة في النصف الأول من القرن الماضي. هذا الفضاء الثقافي كان يعبر الحدود والحواجز اللغوية، مانحًا شعوب القارة فرصًا عديدة لتذوق مختلف الإبداعات الثقافية والفنية في مجالات مثل المسرح والشعر والغناء والرقص والسينما والإنتاج التلفزيوني والموسيقى والأدب والرسم والتصوير ومقتنيات المتاحف والنحت وفنون الأداء والتعبير الإنساني والاجتماعي.
ورصد القاسم مجموعة من التطورات التي أثرت بشكل كبير على المشهد الثقافي في المملكة المتحدة، ومن بينها التراجع في تنظيم مشاريع ثقافية رئيسية من قبل العديد من المؤسسات الثقافية والجامعات الكبرى، مما أدى إلى تعميق الفجوة في التبادل الثقافي. كما انسحبت بريطانيا من برنامج "إيراسموس"، الذي كان يوفر فرص التنقل لملايين الطلاب والمعلمين والخريجين بين دول الاتحاد الأوروبي، وكانت المملكة المتحدة من الدول الأكثر استفادة من هذا البرنامج.
وأشار إلى أن الحكومة البريطانية لم تقدم الدعم الكافي للأنشطة الثقافية والفنية لتعويض التمويلات التي كانت تُقدم لمشاريع إبداعية وثقافية من قبل الاتحاد الأوروبي، والتي كانت تقدر بحوالي 50 مليون جنيه إسترليني سنويًا.
تأثر قطاع الفنون والثقافة في بريطانيا بفقدان ميزة التعامل بالمثل مع بقية الدول الأوروبية، حيث كان المنتجون والموزعون في هذا المجال يستفيدون من دعم وحوافز لتسهيل عرض وإنتاج الأعمال في الأسواق الأوروبية المختلفة. وقد كانت العديد من دور السينما وصناع الأفلام والمهرجانات السينمائية في بريطانيا تعتمد على هذه المزايا لعرض أعمال متنوعة من دول مثل إسكندنافيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وشرق أوروبا. ومع تراجع هذا التنوع، يواجه المشهد الفني والثقافي البريطاني خطر الانعزال.
واختتم القاسم بالقول إن تراجع الاهتمام الحكومي بالثقافة والفنون يشكل كابوسًا للعاملين في هذه المجالات، ولكن يعتقد بأن الوضع الاقتصادي العام هو المحرك الأساسي للدعم الحكومي لهذه القطاعات. ونتيجة لذلك، خلفت حكومة المحافظين تراكمات كبيرة يصعب على حكومة العمال جسرها، نظرًا للميزانية المحدودة التي تتجاوز 22 مليار جنيه إسترليني، مما يضطر حكومة العمال إلى إلغاء مجالات إنفاق حيوية للمواطنين ذوي الدخل المنخفض لتوفير جزء من هذه الأموال. ورغم اهتمام رئيس الوزراء كير ستارمر الشخصي بالفنون، إلا أن ضغط الاقتصاد وسحب الكثير من الدعم الحكومي سيبقي قطاعي الثقافة والفنون في البلاد أقل فعالية وأكثر تراجعًا مقارنة بدول أوروبا وبقية دول العالم.
في المقابل، تحدث عضو حزب العمال البريطاني مصطفى رجب، لسكاي نيوز عربية، بأن المملكة المتحدة لا زالت تتصدر قائمة الدول في النشاطات الثقافية والإبداعية المختلفة سواء كانت فن أو كتابة أو نشر ، مقابل تراجعها في قطاع الصناعات بكافة أشكال.
وأضاف رجب أن هذه السياسة بدت واضحة مع تولى مارجريت تاتشر مقاليد حكم المملكة، والتي ألت على نفسها أن تتولى عملية تسويق المنتجات والتراجع عن فكرة الصناعة في حد ذاتها، موضحًا أن النشاط الإبداعي كان أحد الاساليب الهامة في عملية التسويق والتي لم تتوانى المملكة في عملية الاهتمام به نظرًا لدوره الواضح في عملية التسويق لصورة المملكة أمام العالم.
مكانة بارزة
في المقابل، تحدث عضو حزب العمال البريطاني مصطفى رجب لموقع "سكاي نيوز عربية"، موضحًا أن المملكة المتحدة لا تزال تحتل مكانة بارزة في النشاطات الثقافية والإبداعية المختلفة، بما في ذلك الفنون والكتابة والنشر. وفي الوقت نفسه، يشير رجب إلى أن المملكة شهدت تراجعًا ملحوظًا في قطاع الصناعات بجميع أشكاله.
أوضح رجب أن هذا التوجه أصبح أكثر وضوحًا منذ أن تولت مارغريت تاتشر مقاليد الحكم، حيث ركزت حكومتها على تعزيز التسويق للمنتجات بدلاً من التركيز على عملية التصنيع نفسها. ووفقًا لرجب، كان النشاط الإبداعي أحد الأساليب الرئيسية التي استخدمتها المملكة في عملية التسويق، وقد أولت اهتمامًا كبيرًا لهذا النشاط نظرًا لدوره البارز في تحسين صورة المملكة على الساحة العالمية.
هذه التصريحات تسلط الضوء على مدى استمرار المملكة المتحدة في تعزيز نشاطاتها الثقافية والإبداعية كوسيلة للترويج لنفسها عالميًا، على الرغم من تراجعها في مجال الصناعات، فبينما يرى القاسم أن هناك تحديات كبيرة تواجه قطاع الثقافة والفنون في ظل التأثيرات السلبية للبريكست وإهمال الدعم الحكومي، يبرز رجب جانبًا آخر من الصورة يشير إلى قدرة المملكة على الاستفادة من قوتها الثقافية كأداة فعالة في تعزيز مكانتها الدولية.