وسط ترقب كبير من قبل الأسواق المالية العالمية، يواجه مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي موقفاً دقيقاً في قراره المقبل بشأن أسعار الفائدة، مع تزايد النقاشات حول حجم الخفض المحتمل ومدى تأثيره على الاقتصاد.
يأتي هذا في وقت يعكف فيه صناع السياسة النقدية في الفيدرالي على دراسة الأوضاع الاقتصادية، خاصة بعد ظهور بيانات تشير إلى تراجع في سوق العمل وانخفاض في فرص العمل الشاغرة، وهو ما قد يفسره البعض على أنه مؤشر على الركود الوشيك.
وفي ظل هذه الظروف، يدعو خبراء اقتصاد إلى خفض أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة فقط لتجنب إرباك الأسواق وإرسال إشارات خاطئة حول الحاجة إلى تحفيز إضافي محذرين من أن أي خفض أعمق بمقدار نصف نقطة قد يكون غير مبرر وقد يؤدي إلى زعزعة الثقة في الأسواق المالية.
وعلى الرغم من أن أغلب المحللين يتوقعون خفضاً بمقدار 25 نقطة أساس في اجتماع الاحتياطي الفيدرالي يومي 17و18 سبتمبر الجاري، إلا أن زيادة التوقعات بشأن خفض أكبر بمقدار 50 نقطة أساس، في ظل البيانات الاقتصادية الأخيرة، تطرح تساؤلات عديدة حول استراتيجية الفيدرالي ومدى دقة تقديراته للوضع الاقتصادي.
فهل يخطئ الفيدرالي الأميركي في تقدير حجم الخفض المطلوب للفائدة؟ وهل يبالغ في تقدير الحاجة إلى التحفيز؟ أم أنه يواجه مأزقاً معقداً بين التخفيف من حدة التباطؤ الاقتصادي وتجنب الإشارات الخاطئة لرفع الفائدة؟
وبحسب تقرير نشرته شبكة "سي إن بي سي" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، حذر جورج لاغاريس، كبير الاقتصاديين في شركة "فورفيز مازارز" الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من خفض الفائدة بمقدار نصف نقطة، وقال "بينما لا يمكن لأحد أن يضمن حجم خفض أسعار الفائدة من قبل الفيدرالي في اجتماعه المقبل، إلا أنني أميل إلى المعسكر الذي يدعو إلى خفض بمقدار ربع نقطة".
وأضاف لاغاريس : "لا أرى الحاجة الملحة لخفض 50 نقطة، لأن هذا الخفض قد يرسل رسالة خاطئة إلى الأسواق والاقتصاد، هناك تباطؤ يحدث، لا شك في ذلك، لكنني أعتقد أننا بعيدون جداً عن الركود، أدرك أن هناك انخفاضاً طفيفاً في سوق العمل، ويرجع بعض ذلك إلى زيادة في العرض بدلاً من انخفاض في الطلب".
لاغاريس ليس الوحيد الذي يحذر الفيدرالي من خفض بمقدار نصف نقطة هذا الشهر، حيث قال بدوره، موهيت كومار، كبير الاقتصاديين الماليين لأوروبا في جيفريز، "لا حاجة مطلقاً للبنك الفيدرالي لخفض بمقدار 50 نقطة أساس في اجتماع سبتمبر".
وتتراوح الفائدة في أكبر اقتصاد بالعالم عند مستوى 5.25 و5.5 بالمئة، حيث يحافظ الفيدرالي الأميركي منذ أشهر على سعر الفائدة عند أعلى مستوياته منذ 22 عاما للحد من الإقراض وتهدئة زيادة الأسعار.
وذكر تقرير الشبكة الأميركية أن البيانات التي تم نشرها الأربعاء كشفت أن "فرص العمل الشاغرة في الولايات المتحدة انخفضت في يوليو إلى أدنى مستوى لها في أكثر من ثلاث سنوات فيما يُنظر إليه على أنه علامة أخرى على الركود في سوق العمل".
ويسعر المشاركون في السوق بشكل قاطع خفض أسعار الفائدة في اجتماع السياسة النقدية المقبل للبنك الفيدرالي، على الرغم من أن الرهانات زادت لخفض بمقدار نصف نقطة بعد إصدار تقرير "فرص العمل والانقلاب في سوق العمل" أو JOLTS.
ووفقا لأداة فيد ووتش التابعة لمجموعة سي.إم.إي، يرى متعاملون أن هناك احتمالا بنسبة 73 بالمئة أن يخفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة 25 نقطة أساس هذا الشهر، واحتمالا يبلغ 27 بالمئة أن يخفضها 50 نقطة أساس.
افتراضات واقعية
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي والمالي حسين القمزي: "تبدو الافتراضات واقعية إلى حد كبير، البنوك المركزية تعمل في بيئة تتطلب الحذر الشديد فيما يتعلق بالإشارات التي ترسلها للأسواق. يمكن أن يؤدي خفض الفائدة بشكل مفرط دون مبررات واضحة إلى خلق حالة من الذعر في الأسواق، ومع عدم وجود مؤشرات واضحة على ركود اقتصادي، فعلى الفيدرالي ان يكون أكثر حذراً".
من ناحية أخرى، قد تكون هناك توقعات بين بعض اللاعبين في السوق بتخفيض أكبر بسبب المؤشرات الاقتصادية البطيئة. وبالتالي، فإن تخفيضاً صغيرًاً قد يخيب آمال المستثمرين الذين يتوقعون تحركاً أكبر، بحسب تعبيره.
ويرى المحلل الاقتصادي والمالي القمزي أنه يجب على الاحتياطي الفيدرالي أن يأخذ في الحسبان كلاً من قراءة الأسواق للإشارات وقراءة البيانات الاقتصادية الفعلية عند اتخاذ قراراته، إذ لا يمكن تجاهل تأثيرات الإشارات المرسلة للأسواق، خاصة وأن ردود فعل المستثمرين قد تؤدي إلى تقلبات غير مرغوبة في السوق، وهو ما قد يؤثر سلباً على الاقتصاد.
وشدد القمزي أنه يجب أن يكون هناك توازن بين قراءة البيانات وقراءة ردود فعل الأسواق، مشيراً إلى أن الفيدرالي لا يمكنه تجاهل الأسواق بالكامل، لكنه أيضاً يجب ألا يكون سجيناً لها، لأن قراراته يجب ان تستند إلى البيانات، وفي نفس الوقت تجب مراعاة كيفية استقبال الأسواق لها.
لعبة خطيرة
من جهته قال علي حمودي، الخبير المالي، الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في "ATA Global Horizons" في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "هل يلعب بنك الاحتياطي الفيدرالي لعبة خطيرة؟ فهو يواجه مهمة صعبة لتحقيق التوازن، ففي ظل ارتفاع معدلات التضخم بشكل عنيد وإظهار الاقتصاد لعلامات الضعف، تتزايد الضغوط لخفض أسعار الفائدة. ولكن السؤال المهم هو هل يبالغ بنك الاحتياطي الفيدرالي في تقديره، ويخطئ في تقدير الحاجة إلى التحفيز، ويخاطر بإشارات خاطئة في بيئة اقتصادية هشة؟".
يرى حمودي أن المبرر لصالح خفض أسعار الفائدة يستند بشكل أساسي إلى المخاوف بشأن ضعف الاقتصاد. فقد أظهرت البيانات الاقتصادية الأخيرة علامات على تباطؤ النمو، مع انخفاض الإنفاق الاستهلاكي وتعثر الاستثمار التجاري. ومن الناحية النظرية، من شأن خفض أسعار الفائدة أن يحفز الاقتراض، ويعزز الاستثمار، وربما ينشط النشاط الاقتصادي".
ومع ذلك، يواجه بنك الاحتياطي الفيدرالي معضلة دقيقة. فقد يؤدي خفض أسعار الفائدة إلى إرسال إشارة خاطئة إلى السوق، مما يشير إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي أكثر اهتماماً بالنمو في الأمد القريب من توقعات التضخم. وقد يؤدي هذا إلى تغذية توقعات التضخم وتقويض مصداقية بنك الاحتياطي الفيدرالي في السيطرة على الأسعار، بحسب تعبيره.
وأضاف الخبير المالي: "ولنتذكر أن المهمة الأساسية لبنك الاحتياطي الفيدرالي هي الحفاظ على استقرار الأسعار والعمالة الكاملة في سوق العمل الأميركي. وفي حين قد يساعد خفض أسعار الفائدة في الأمد القريب، فإنه قد يأتي بنتائج عكسية في الأمد البعيد من خلال تفاقم التضخم ودفع الاقتصاد بعيداً عن مساره".
عدم اليقين في المشهد الاقتصادي العالمي يزيد التعقيد
ويشرح حموي أن عدم اليقين في المشهد الاقتصادي العالمي يزيد من تعقيد الموقف، لأن الحرب في أوكرانيا، وانقطاعات سلسلة التوريد المستمرة، والتوترات الجيوسياسية تستمر في إضافة المزيد من التقلبات إلى السوق. وفي هذه البيئة، فإن أي قرار يتخذه بنك الاحتياطي الفيدرالي يحمل مخاطر كبيرة من العواقب غير المقصودة".
ويختم الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في "ATA Global Horizons" بأن "مهمة بنك الاحتياطي الفيدرالي هي التنقل عبر مسار صعب. وفي حين قد يستفيد الاقتصاد من دفعة قصيرة الأجل، فإن خفض أسعار الفائدة قد يمهد الطريق لتعديل أكثر إيلاماً في وقت لاحق. وسوف يتوقف قرار بنك الاحتياطي الفيدرالي على تقييمه للمخاطر وقدرته على الموازنة بين الحاجة إلى التحفيز وإمكانية مكافحة التضخم بشكل مستدام، والأشهر المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة لبنك الاحتياطي الفيدرالي والاقتصاد. وسوف يكون لكيفية تعامل بنك الاحتياطي الفيدرالي مع هذه المعضلة آثار كبيرة على مسار الاقتصاد، وثقة المستثمرين والمستهلكين على حد سواء".