بينما تستمر المدن الكبرى في الهند في النمو والازدهار، تشهد مدن الدرجة الثانية مثل تشانديغار وكويمباتور وجايبور تحولاً لافتاً يجعلها محط اهتمام الشركات والموظفين على حد سواء.
هذا التحول يدفع نحو تساؤلات عدة حول العوامل التي تجعل مدن الدرجة الثانية في الهند وجهة جاذبة للشركات والموظفين؟ وهل تشهد هذه المدن نهضة اقتصادية جديدة تدفعها نحو الصدارة؟ والأهم، هل ستتمكن هذه المدن الصاعدة من رسم ملامح جديدة للاقتصاد الهندي في المستقبل القريب؟
وتوفر مدن الدرجة الثانية مزايا عدة مثل انخفاض تكاليف التشغيل وأسلوب حياة أكثر استرخاء وفرص تعليم لائقة واحتياطي من الموظفين المهرة وشبه المهرة غير المستغلين، وتستفيد العديد من الشركات من هذه الفرص، بحسب تقرير نشرته شبكة (سي إن بي سي) الأميركية واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية.
وذكر التقرير أن الشركات متعددة الجنسيات الراغبة في التواجد بالهند تتنافس على مساحة خارج المدن الكبرى، مشيراً على سبيل المثال إلى أن المقر الرئيسي لشركة ترايدنت المختصة بإنتاج المفروشات والسجاد والخيوط يقع في لوديانا، وهي مدينة صناعية تبعد نحو 100 كيلومتر عن تشانديغار عاصمة ولاية البنجاب، كما أن شركة صناعة السيارات كيا إنديا أنشأت مصنعاً في منطقة أنانتابور، التي تبعد نحو 215 كيلومتراً عن بنغالور.
ونوه بأن مدن الدرجة الثانية والثالثة أصبحت أيضاً نقاطاً ساخنة لإنشاء مراكز القدرة العالمية (GCC)، والتي تعتني بمجموعة من وظائف الأعمال للمنظمة الأم، حيث تضم القوة الآسيوية نحو 1800 من هذه المراكز ما يمنحها حصة سوقية عالمية تزيد عن 50 بالمئة، وفقاً لبيانات من منصة الوظائف والمواهب Foundit.
وتعد مدينة بوني، وهي مدينة في ولاية ماهاراشترا، مركزاً لمراكز القدرة العالمية المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات والسيارات والتصنيع. وفي الوقت نفسه، تعد مدينة أحمد آباد، وهي مدينة في ولاية غوجارات، وجهة رئيسية للشركات في الخدمات المصرفية والمالية نظراً لقربها من مدينة غوجارات الدولية للتمويل والتكنولوجيا.
وتشمل المدن الأخرى التي شهدت اهتماماً من جانب دول مجلس التعاون الخليجي تشانديغار، وبوبانيشوار، وجايبور، ولكناو، وفيساخاباتنام وذلك بفضل تحسين الاتصال الجوي، وإنشاء جامعات خاصة حديثة العهد، وخفض التكاليف.
ونقلت الشبكة عن قالت شوميتا ديفيشوار، كبيرة خبراء الاقتصاد في الهند في "تي إس لومبارد": "لقد نشأت هذه المدن بشكل طبيعي مع نمو السكان، وتقلص المساحة، لقد كان الاقتصاد الهندي اقتصاداً قائماً على الخدمات، وهو ما لم يخدمه بشكل جيد من حيث خلق نوع الوظائف التي نحتاجها للشريحة السكانية الشابة التي لدينا".
وذكرت أن هناك بالتأكيد اكتظاظ في المدن الهندية ولم يتمكن تطوير البنية التحتية من مواكبة نوع النمو في السكان، واقترحت أن يشمل توسع المدن إنشاء وظائف تسمح للناس بالحفاظ على أسلوب الحياة والمحيط الذي يشعرون بالراحة فيه.
وتشير بيانات وكالة "نيتي أيوج" الحكومية إلى أن نحو 60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للهند كان من جيوبها الحضرية، ومع انتقال المزيد من الناس إلى المدن، من المتوقع أن يكون 73 بالمئة من نمو سكان البلاد في المناطق الحضرية بحلول عام 2036، وفقًا للوكالة، مع حصول العمال على علاوة أجور بنسبة 122 بالمئة مقارنة بأولئك في المناطق الريفية من البلاد.
تقديم مزايا تنافسية
في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية قال الخبير الاقتصادي، الدكتور عماد الدين المصبح، أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي: "إن المدن الهندية الثانوية تقدم مزايا تنافسية للشركات وتشهد هذه المدن نمواً أقوى في فرص العمل مقارنة مع المدن الكبرى ويرجع ذلك إلى التحول في السياسات والحوافز التنظيمية واستعداد المرشحين للعمل خارج المدن الكبرى وهم عمالة ماهرة وشبه ماهرة غير مستغلة".
ومع ذلك، فإن الرواتب في المدن من الدرجة الثانية أقل عادة بنسبة 30-40 بالمئة من الرواتب في المدن الكبرى، لكن التحدي الآن هو خلق فرص عمل كافية عبر الصناعات والمدن لتلبية احتياجات التركيبة السكانية الشابة المتعلمة، بحسب تعبيره.
تحديات التوسع الحضري
ورداً على سؤال فيما إذا كانت هذه المدن الصاعدة ترسم ملامح جديدة للاقتصاد الهندي أجاب الدكتور المصبح: "هناك بعض التحديات والمخاوف الرئيسية حول التوسع الحضري في الهند وتنمية مدنها من الدرجة الثانية والثالثة أبرزها:
- لم يواكب تطوير البنية الأساسية النمو السكاني.
- هناك مخاوف بشأن الاكتظاظ في المدن وما إذا كانت البنية الأساسية قادرة على التعامل مع تدفق المزيد من الأشخاص المهاجرين إلى المناطق الحضرية.
- تباطئ الاستثمار الأجنبي في الهند، وهو أمر مثير للقلق لأنها واحدة من أسرع البلدان نمواً.
- لم يخلق الاقتصاد الهندي القائم على الخدمات ما يكفي من فرص العمل، وخاصة لسكانها الشباب المتعلمين. ويتعين على التحضر أن يشمل خلق النوع المناسب من الوظائف التي تسمح للناس بالاحتفاظ بأسلوب الحياة الذي يرتاحون إليه.
توفير مناطق صناعية متكاملة
من جانبه قال الخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى بدرة في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن الاقتصاد الهندي يُعد من أكبر اقتصادات العالم في الأسواق الناشئة، وهو الثالث عالمياً من حيث معدلات النمو المتسارع، رغم الأزمات الاقتصادية العالمية."
وأضاف بدرة: "إن جميع المدن الهندية تسهم في زيادة معدلات النمو الاقتصادي للبلاد، حيث تحتوي على مجموعة متنوعة من الأنشطة والصناعات، كما تتجه العديد من دول العالم نحو استخدام العمالة الهندية نظراً لتقدم الهند في عدة صناعات، مثل التكنولوجيا، والغزل والنسيج، والطيران، وصناعة الأسلحة، والأمن الإلكتروني، فالهند باتت متقدمة في العديد من القطاعات الصناعية وتتنافس أيضاً مع الصين."
ووضعت الهند رؤية استراتيجية للعشرين سنة المقبلة تهدف لأن تكون من الاقتصادات المتقدمة عالمياً، وتلعب مدن الدرجة الثانية دوراً كبيراً في هذه الرؤية، حيث توفر مناطق صناعية جاذبة للشركات والمستثمرين، وتتميز بتنوع تخصصاتها الصناعية مثل التكنولوجيا والبرمجيات والصناعات التحويلية، مما يجعلها مناطق صناعية متكاملة. كما يوجد توجه من الدولة لإنشاء مناطق لوجستية متكاملة للصناعات المختلفة، طبقاً لما قاله الدكتور بدرة.
وأكد الخبير الاقتصادي بدرة أن هذه المدن أصبحت نقاط جذب هامة للصناعة والتجارة، حيث يشهد الاقتصاد الهندي تحولاً تدريجياً مع انتقال وتوسع هذه القطاعات. ومع التعداد السكاني الكبير، تدرك الهند أهمية تعزيز التنمية في العديد من المدن، بالإضافة إلى توجه الدولة لدعم المناطق الأكثر فقراً وتحسين مستوياتها من خلال دخول بعض الصناعات".