يعاني سوق العقارات الصيني من تراجع ملحوظ انعكس على ميزانيات الحكومات المحلية، حيث انخفضت إيرادات مبيعات الأراضي بوتيرة غير مسبوقة ما يضع ضغوطاً مالية إضافية على تلك الحكومات التي تعتمد بشكل كبير على هذه الإيرادات.
في ظل هذا الوضع، انخفض الإنفاق الحكومي الأمر الذي عزز المخاوف من تأثير هذا الانخفاض على الاقتصاد الصيني الذي يواجه أزمة عقارية متفاقمة، وبينما تبدو الحاجة ملحة لزيادة الحوافز الاقتصادية، يبقى السؤال: هل سيحفز الإنفاق الحكومي سوق العقارات ويعيده إلى الانتعاش، أم أنه سيؤجل الأزمة؟
وبحسب تقرير نشرته "بلومبرغ" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فإن الإنفاق العام في الصين انخفض بنسبة 2 بالمئة في أول سبعة أشهر من عام 2024، مقارنة مع الفترة ذاتها من العام 2023، حيث بلغ الإنفاق المشترك في الميزانية العامة وحساب صندوق الحكومة حوالي 19.7 تريليون يوان (2.8 تريليون دولار)، وتراجعت إيرادات مبيعات الأراضي للحكومات المحلية بوتيرة قياسية، مما يشير إلى ضعف مالي قد يزيد من الدعوات إلى بكين لإضافة حوافز لدعم الاقتصاد البالغ 17 تريليون دولار.
وأرجع التقرير هذا الانخفاض إلى تدني الإنفاق المرتبط بالأراضي بنسبة 8.9 بالمئة، والذي يشمل مدفوعات لتطوير الأراضي الأولية والتعويضات عن البنية التحتية الريفية الحالية استعداداً لمبيعات محتملة، وتقوم الحكومات المحلية بخفض الإنفاق مع تعرض ميزانياتها للضغط من جراء الركود العقاري الشديد الذي جعل المطورين غير راغبين في شراء الأراضي.
التأثير السلبي للعقارات على المالية العامة
ونوه بأن التأثير السلبي للعقارات على المالية العامة بات أكثر وضوحاً في الميزانيات العمومية للحكومات المحلية، حيث انخفضت إيراداتها من مبيعات الأراضي في يوليو الماضي بنسبة تزيد قليلاً عن 40 بالمئة على أساس سنوي إلى 250 مليار يوان، وهو أكبر انخفاض منذ أن أصبحت البيانات المقارنة متاحة في عام 2016.
وجاء انكماش الإنفاق خلال الشهر الذي عقد فيه الحزب الحاكم أهم اجتماعاته المتعلقة بالسياسة الاقتصادية للنصف الثاني من العام، حيث تعهد مجلس الوزراء بدراسة خطوات إضافية ستكون قوية بما يكفي للوصول إلى الشركات والأسر المعيشية.
في الوقت نفسه، حث اقتصاديون في الصين على رفع سقف العجز الرسمي هذا العام للسماح بالاقتراض الحكومي المركزي على نطاق أوسع في أواخر العام الماضي، كما اقترح الاقتصاديون استخدام جزء من الأموال التي تم جمعها من أي اقتراض حكومي إضافي هذا العام لدفع إعانات للأسر الأقل ثراء وكذلك معالجة المخاطر المالية المحلية والمساعدة في إنقاذ سوق العقارات.
تحوّل في استخدام السندات الحكومية
وبدأ بالفعل تحول في استخدام السندات الحكومية، حيث تستخدم الصين بعضاً من السندات السيادية الخاصة طويلة الأجل التي تبيعها هذا العام لدعم مشتريات المعدات الجديدة من قبل الشركات والمستهلكين وهي مبادرة رئيسية لبكين تهدف إلى تعزيز الاستهلاك، كما يفكر صناع السياسات في اقتراح السماح للسلطات المحلية باستخدام هذه السندات لتمويل مشترياتهم من المنازل المباعة كجزء من الجهود لدعم سوق الإسكان، كما ذكرت "بلومبرغ" الأسبوع الماضي.
وتسارع إصدار السندات الخاصة المحلية - المخصصة في الغالب للاستثمار في البنية التحتية - في أغسطس الجاري بعد أن ظلت بطيئة في وقت سابق من هذا العام، بسبب دخول كميات كبيرة من الديون السيادية إلى السوق، وبلغت مبيعات السندات الخاصة المحلية الجديدة 632.7 مليار يوان حتى الآن هذا الشهر، وهو أكبر حجم منذ يونيو 2022.
مبيعات الأراضي مصدر رئيسي لتمويل الحكومات المحلية
وقال الخبير الاقتصادي والمالي حسين القمزي في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "في الصين، تُعد مبيعات الأراضي مصدراً رئيسياً لتمويل الحكومات المحلية، إذ يعتمد تمويل هذه الحكومات على بيع حقوق استخدام الأراضي لفترات طويلة تصل إلى 70 عاماً، وهي حقوق تحتفظ الدولة بملكية الأرض الأساسية لها، وتمثل العائدات من هذه المبيعات جزءاً كبيراً من ميزانية الحكومات المحلية ما يسمح لها بتمويل مشاريع البنية التحتية الكبيرة مثل الطرق والجسور، بالإضافة إلى تمويل الإنفاق العام وسداد الديون المحلية".
ومع تراجع مبيعات الأراضي بشكل حاد في الفترة الأخيرة، أصبح من الصعب على الحكومات المحلية تمويل هذه المشاريع والخدمات، ويأتي هذا التراجع نتيجة لأزمة العقارات في البلاد، حيث تراجع الطلب على شراء الأراضي من قبل المطورين العقاريين الذين يواجهون ضغوطاً مالية، هذه الأزمة تؤدي إلى تفاقم الوضع المالي للحكومات المحلية، مما يجبرها على خفض الإنفاق وتأجيل المشاريع، بحسب تعبيره.
ضغوط تهدد باستقرار النظام المالي
ويشرح القمزي أنه بسبب هذه الضغوط المالية، يتزايد الضغط أيضاً على الحكومة المركزية لتقديم دعم مالي إضافي، ومن بين الحلول المقترحة هو رفع سقف العجز الحكومي للسماح بمزيد من الاقتراض المركزي، لكنه أوضح أن هذا الحل يثير مخاوف بشأن زيادة الدين الوطني واستقرار النظام المالي على المدى الطويل.
وفي ظل هذه الظروف، تبحث الحكومات المحلية عن بدائل للإيرادات، مثل فرض ضرائب جديدة أو زيادة الاقتراض، لكن هذه البدائل قد تكون محدودة وغير مستدامة ما يبرز الحاجة إلى إصلاحات مالية شاملة لتقليل اعتمادها على مبيعات الأراضي، وفقاً للمحلل الاقتصادي والمالي القمزي.
وفي حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي، أستاذ الاقتصاد في جامعة الزقازيق الدكتور عبد الله الشناوي: "يواجه قطاع العقارات في الصين مخاطر عدة ضمن اقتصادها الهجين الذي يجمع بين آليات السوق والتخطيط الشامل للدولة والتدخل الحكومي، ويحظى القطاع بأهمية خاصة حيث تعد عائدات بيع الأراضي مصدراً حاسماً للتمويل للحكومات المحلية ما يمكنها من تمويل مشروعات البنية التحتية وتحفيز النمو الاقتصادي".
وتتعرض البنوك بشكل كبير للديون المضمونة بالعقارات، والتي تشمل شركات العقارات والأسر وأيضاً الحكومات المحلية والشركات التابعة ما يمنح الهيكل الهجين الحكومة الصينية التزاماً قوياً والقدرة على تأخير أزمة العقارات، وترتبط مخاطر العقارات في الصين في النهاية بالنمو الاقتصادي الإجمالي وتظل عرضة للمخاطر المتعلقة بالسياسات، بحسب تعبيره.
وأوضح أنه أكثر القضايا إلحاحاً مشكلة الديون التي تعاني منها العديد من شركات العقارات التي شارفت على التخلف عن سداد بعض ديونها ما يزيد المخاوف بشأن استقرار السوق والنظام المالي، وكذلك الشك في صحة سوق العقارات الصيني لأسباب منها، انخفاض أسعار العقارات وزيادة مخزون المساكن غير المباعة في العديد من المدن وتباطؤ عملية التحضر ما قد يؤدي الى تباطؤ اقتصادي أوسع نطاقاً بالإضافة الى مخاوف التركيبة السكانية في الصين والتي يترتب عليها نقص في الطلب على المساكن مستقبلاً، كل ذلك يزيد من حالة عدم اليقين.
ترتبط التحديات التي تواجه قطاع العقارات ارتباطاً وثيقاً بالهيكل الهجين لقطاع العقارات في الصين، حيث تسيطر الحكومة على توفير الأراضي، وهي المدخلات الأساسية لتطوير العقارات، بينما تستخدم الحكومات المحلية الإيرادات من مبيعات الأراضي لتمويل مشرعات البنية التحتية والتنمية الحضرية. وفي الوقت نفسه، تُباع العقارات للأسر والشركات في بيئة سوق حرة نسبياً وتوفر البنوك تمويل الديون لجميع المشاركين في القطاع، حيث تستخدم الحكومات المحلية، عائدات بيع الأراضي غير المباعة كضمان للحصول على قروض مصرفية. شركات العقارات، التي تستخدم حيازات الأراضي والعقارات غير المباعة كضمان لتمويل المشروعات.
العوامل المؤثر على قطاع العقارات
ورداً على سؤال حول العوامل التي تؤثر في قطاع العقارات الصيني ذكر الدكتور الشناوي أنه توجد العديد من القنوات التي تؤثر في قطاع العقارات ومنها:
- قناة التمويل: تعد مبيعات الأراضي مصدراً أساسياً للتمويل المالي للحكومات المحلية، المسؤولة عن تنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة المركزية.
- قناة المنافسة: المنافسة الاقتصادية بين المسؤولين المحليين على التقدم الوظيفي والترقية من خلال تعزيز الاقتصاد المحلي وتحسين البنية الأساسية.
- قناة ضمان الحكومة المركزية: حيث تؤدي الضمانات التي تقدمها الحكومة لقطاع العقارات إلى تفاقم الإفراط في الاستثمار والإفراط في الاستدانة في سوق العقارات، وبالتالي إن اعتماد الحكومات المحلية على الديون المضمونة بالعقارات يجعل سوق العقارات أكثر عرضة للانهيار.
وأرجع أستاذ الاقتصاد في جامعة الزقازيق الإفراط في الاستثمار والإفراط في الاستدانة في قطاع العقارات الصيني إلى مايلي:
- تتحمل الحكومات المحلية مسؤولية تنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة المركزية، حيث تعد مبيعات الأراضي مصدراً حاسمًا للتمويل المالي لها. وبالتالي، فإن أجندة سياسة الحكومة المركزية يمكن أن تؤثر بشكل كبير على قطاع العقارات من خلال دورها كقناة تمويل للحكومات المحلية، حتى لو لم تكن السياسات مرتبطة مباشرة بالعقارات.
- يتم تحفيز مسؤولي الحكومة المحلية من خلال تقييمات الحكومة المركزية لأدائهم الوظيفي، والتي يمكن أن تخلق حوافز قصيرة الأجل للحكومات المحلية للإفراط في الاستثمار في البنية الأساسية لتعزيز الاقتصادات المحلية والإفراط في الإنفاق في المشروعات التي تفوضها الحكومة المركزية، والذي يؤدي إلى ضغوط تمويلية تؤدي إلى حوافز لتعزيز أسواق العقارات المحلية حتى تتمكن الحكومات المحلية من بيع المزيد من الأراضي بأسعار أعلى.
التوجه المتوقع للحكومة الصينية
وأشار إلى أن التزام الحكومة الصينية بتحقيق الاستقرار المالي وقدرتها على حشد الحكومات المحلية والبنوك الحكومية والشركات المملوكة للدولة يجعلان من غير المرجح أن تندلع أزمة ديون على النمط الغربي. لذلك من الأهمية بمكان أن تتبنى الحكومة المركزية نهجاً حكيماً ومستداماً لإدارة الاقتصاد وقطاع العقارات، مع إعطاء الأولوية لاستقرار واستدامة كليهما على الأهداف الاقتصادية والسياسية قصيرة الأجل. كما أن التحول الهيكلي نحو اقتصاد أكثر توجهاً نحو الاستهلاك، والاستثمار في محركات النمو الجديدة، وتعزيز علاقة العرض والطلب الأكثر توازناً في قطاع العقارات يمكن أن يخلق بيئة اقتصادية مستقرة تقلل تدريجياً من المخاطر في القطاع.
وأضاف الخبير الاقتصادي الشناوي: "على الرغم من ان التباطؤ في سوق العقارات الصيني لا يزال مستمراً لكن من غير المرجح أن يمتد إلى أزمة مالية أوسع نطاقاً ذات تداعيات عالمية. فمعظم ديون القطاع محلية ومهيكلة بحيث يصبح خطر التخلف عن السداد النظامي منخفضاً. كما أن الإنفاق الحكومي على البنية الأساسية "الكبرى" من شأنه أن يدعم النمو الاقتصادي، وخاصة التأمين على الممتلكات والتعويضات.
ونوه بأن الصين استهدفت تخصيص ما يقرب من 42 مليار دولار من البنك المركزي لتمويل عمليات شراء الدولة للممتلكات غير المباعة لإنقاذ سوق العقارات، ومطالبة الحكومات المحلية بشراء المساكن غير المباعة من المطورين وتحويلها إلى مساكن اجتماعية ميسورة التكلفة. كما تتضمن الحزمة خفض أسعار الفائدة على الرهن العقاري وخفض المدفوعات الأولية.