تُعد الشيخوخة السكانية واحدة من أبرز النقاط الساخنة التي يواجهها الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن، فمع تزايد نسبة كبار السن بين السكان تبرز تحديات اقتصادية واجتماعية هامة تتطلب اهتماماً خاصاً من صانعي السياسات والاقتصاديين.

وما حصل في الآونة الأخيرة مع الرئيس الأميركي جو بايدن الذي اتخذ قراره بالانسحاب من السباق الرئاسي، أعطى العالم فكرة واضحة عن سبب اعتبار الشيخوخة مشكلة السوق المستجدة.

فصحيح أن متوسط عمر الإنسان آخذ في الارتفاع، ولكن العالم لا يملك الهياكل اللازمة للتعامل مع المشاكل التي قد تصاحب طول العمر، وهذا ما جعل شركات التأمين والرعاية الصحية وصناديق التقاعد تكافح إلى جانب المؤسسات السياسية في عالم يعيش ويعمل لفترة أطول.

وبحسب تقرير نشرته "بلومبرغ" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فإن الفوضى التي يواجهها العالم في التعامل مع قضية الشيخوخة السكانية، أو حتى معالجتها، تشكل جوهر ما حدث مع بايدن قبل قرار انسحابه، فالمؤسسات السياسية الأميركية، تضع حداً أدنى لسن الرئيس وهو 35 عاماً، ولكنها لا تضع أي حد أقصى لعمره، وهذا ما دفع بأعضاء الحزب الديمقراطي الأميركي للتدخل وحث الرئيس بايدن الذي يبلغ من العمر 81 عاماً على الانسحاب من السباق الرئاسي، واستبداله بمرشح أصغر سناً والتي ستكون على الأرجح كامالا هاريس التي تبلغ من العمر 59 عاماً.

أخبار ذات صلة

خفض الفائدة يلوح في الأفق بعد تباطؤ حاد للتوظيف بأميركا
أميركا.. تقلص عدد المرشحين الديمقراطيين لمنصب نائب هاريس

أكبر بكثير من قضية بايدن

وبينما انصب تركيز العالم مؤخراً على قضية الشيخوخة كعنوان مرتبط فقط بالانتخابات الرئاسية الأميركية، إلا أن الحقيقة تكمن في أن الشيخوخة وبالنسبة للأسواق، هي قضية أكبر بكثير من قضية بايدن، فالعالم أجمع وحتى الساعة لا يملك المؤسسات، والتقنيات الطبية، والمنتجات المالية، للتعامل مع المشاكل التي قد تصاحب طول العمر، في وقت يستمر فيه العالم بتسجيل ارتفاعات في نسبة الأشخاص المسنين، حيث تظهر بيانات "مورغان ستانلي"، أن عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 85 عاماً أو أكثر في الولايات المتحدة، سيرتفع من حوالي 1.7 مليون اليوم إلى 2.1 مليون بحلول عام 2030.

كما تظهر بيانات الأمم المتحدة أن نسبة الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً وما فوق تتزايد في العالم، بمعدل أسرع من أولئك الذين تقل أعمارهم عن ذلك العمر، حيث من المتوقع أن ترتفع النسبة المئوية لسكان العالم الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً وما فوق، من 10 في المئة في عام 2022 إلى 16 بالمئة في عام 2050، وهو الأمر الذي سيلعب دوراً في إعادة تشكيل اتجاهات المستهلكين، فطريقة إنفاق المستهلكين كبار السن، مختلفة تماماً عن طريقة إنفاق المستهلكين الأصغر.

والميل المتزايد لتقدم المجتمعات في السن دون أي خطة تواكب المتغيرات التي تنتجها، أمر يقلق الأسواق التي تكره حالات عدم اليقين، فبحكم طبيعتها، يمكن للأسواق رؤية المشاكل الديموغرافية القادمة من مسافة بعيدة، خصوصاً أنه ومع استمرار السلطات في تقديم مساعدات سخية لكبار السن، عندما يشكلون نسبة كبيرة من السكان، سيحدث ظلماً بين الأجيال إذ سيعمل الشباب بشكل متزايد لدعم كبار السن، في حين أن التراجع عن تقديم المساعدات المالية لكبار السن أمر صعب سياسياً، ففي نهاية المطاف، هناك احترام إنساني طبيعي لكبار السن من شأنه أن يواجه أي محاولة عشوائية للإصلاح. 

وقال رئيس منتدى دراية للسياسات العامة ودراسات التنمية، صلاح هاشم، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن مشكلة شيخوخة السكان تتصدر اهتمامات العديد من الاقتصادات الكبرى، نظراً للآثار السلبية التي من المحتمل أن تحدثها هذه الظاهرة، والتي وصفها صندوق النقد الدولي على أنها "التحدي الديمغرافي العالمي الأكبر"، وحذر من تأثيراتها السلبية على النمو الاقتصادي للدول.

وبحسب هاشم فإن أهم التداعيات الاقتصادية لارتفاع معدلات الشيخوخة هي كالآتي:

- تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، حيث أشار صندوق النقد الدولي إلى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي يتباطأ، نتيجة لانخفاض القوى العاملة وتباطؤ النمو السكاني، مما يثير القلق في العديد من البلدان مثل اليابان والولايات المتحدة وأوروبا.

- تراجع عدد السكان في سن العمل، مما يؤدي إلى نقص في عدد الموظفين المؤهلين، وهذا يتسبب بتداعيات سلبية تشمل انخفاض الإنتاجية، وزيادة تكاليف العمالة، وتأخير توسع الأعمال التجارية، وتراجع القدرة التنافسية على الصعيد الدولي.

- تصاعد تكاليف الرعاية الصحية يفرض على الدول التي تواجه هذه الظاهرة تخصيص موارد مالية إضافية لتطوير نظم الرعاية الصحية. ورغم أن الإنفاق على هذا القطاع يشكل جزءاً كبيراً من الناتج المحلي الإجمالي في معظم الاقتصادات المتقدمة، فإن زيادة هذا الإنفاق دون التأثير السلبي على القطاعات الأخرى يبقى تحدياً كبيراً. بالإضافة إلى ذلك، سيعاني قطاع الرعاية الصحية من نقص في العمالة والمهارات، ومع تزايد معدلات الأمراض المزمنة، يصبح من الصعب تلبية احتياجات الأعداد المتنامية من السكان.

- ارتفاع معدل الإعالة، حيث ستعتمد الدول ذات الكثافة السكانية المتقدمة في العمر على عدد محدود من العاملين لتحصيل الضرائب وإنفاقها على الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية ذات التكلفة العالية، مما سيشكل مصدر قلق كبير للدول الصناعية المتقدمة.

- ظهور تغيرات في الاقتصاد، حيث تختلف الاقتصادات التي تحتوي على نسبة كبيرة من كبار السن في توجهاتها عن تلك التي تتمتع بنسبة كبيرة من القوى العاملة الشابة. فالاقتصادات ذات النسبة العالية من كبار السن تشهد زيادة في الطلب على الرعاية الصحية ودور المسنين، وتدفع أيضاً نحو التحول إلى أسواق تهيمن عليها السلع والخدمات المخصصة لكبار السن.

- تقلص حجم الأموال المتاحة للاستثمار نتيجة لزيادة نسبة الأموال المخصصة للرواتب والإعانات.

- تحول جزء كبير من السكان من منتجين إلى مستهلكين، مما يؤثر بشكل كبير على قدرات المجتمع الادخارية.

أخبار ذات صلة

هل تشكل الحرب التجارية خطرا على الشركات الغربية؟
أسهم البنوك اليابانية تتكبد أكبر خسارة يومية منذ 2020

لماذا تكره الأسواق عدم يقين الشيخوخة؟

من جانبه يقول المستشار المصرفي محمد سعد، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الأسواق المالية يمكن أن تكون حساسة جداً ولا تحب حالة عدم اليقين التي تسببها الشيخوخة، لأنها تجعل من الصعب التنبؤ بالأداء الاقتصادي، فالمستثمرون لا يعرفون كيف ستتطور الأمور في المستقبل، مما قد يؤثر على قراراتهم الاستثمارية.

وأشار إلى أن حالة عدم اليقين تقود إلى تقلبات في السوق، وتجعل من الصعب التنبؤ باتجاهاتها المستقبلية، فتغيّر أنماط الادخار والاستثمار، وتناقص اليد العاملة الشابة وزيادة الطلب على خدمات الرعاية الصحية، إضافة إلى زيادة العبء المالي على أنظمة التقاعد، كلها عوامل تجعل الأسواق أقل يقيناً حول المستقبل، خصوصاً في ظل غياب خطة واضحة لمواجهة آثار شيخوخة المجتمعات.

ويؤكد سعد أن العالم يفتقر إلى المؤسسات التي تتعامل بجدية مع التحديات المرتبطة بزيادة عمر الإنسان لعدة أسباب رئيسية، فالسوق غير ناضجة بعد وهي تفتقر للمنتجات المالية والطبية المخصصة للتقاعد مثل خطط التقاعد التكميلية أو التأمينات الطويلة الأمد، وهذا الأمر يعود إلى أن زيادة متوسط العمر تحدث بشكل أسرع من قدرة الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية على التكيف معها، في حين أن العديد من الدول لم تخطط بشكل كاف لمواجهة التحديات المرتبطة بالشيخوخة، مما ترك فجوات في الاستجابة للأزمات المرتبطة بهذه الظاهرة.

وبحسب سعد فإن  شركات التأمين والرعاية الصحية وصناديق التقاعد، تعتبر من بين أكثر القطاعات تضرراً من الشيخوخة، فمع التقدم في العمر تتزايد احتمالية حدوث حالات صحية معقدة، مما يؤدي إلى زيادة في مطالبات التأمين.

وهذا يرفع من تكلفة تقديم الخدمات ويضغط على أرباح شركات التأمين، في حين أنه مع تزايد أعداد المتقاعدين تزداد الالتزامات المالية لصناديق التقاعد بسبب استمرار دفع المعاشات لفترات أطول، وهذا ما يخلق تحديات لهذه الصناديق في الحفاظ على توازن بين تحقيق عوائد جيدة وضمان تلبية مطالب المعاشات التقاعدية، لافتاً إلى أن قطاع العقارات سيتأثر بشكل كبير من شيخوخة السكان بسبب التغيرات في الطلب، فمع تقدم العمر يزداد الطلب على أنواع معينة من العقارات، مثل المساكن المجهزة لكبار السن أو دور الرعاية، وهذا يتطلب تطوير مشاريع سكنية جديدة تلبي احتياجات هذه الفئة العمرية.

ويرى سعد أن مشاكل شيخوخة المجتمعات، خاصةً فيما يتعلق بالمخصصات المالية وتأمين حياة كريمة لكبار السن، تتطلب حلولاً متعددة الأبعاد ومتكاملة، إذ لا يوجد حل واحد يناسب جميع البلدان، ولكن يمكن اتباع استراتيجيات متنوعة لمعالجة هذه القضايا، مثل تمديد سن التقاعد ليتناسب مع زيادة متوسط العمر المتوقع، مما يقلل العبء المالي على أنظمة التقاعد، ويعزز من إدارة أموال التقاعد من خلال استثمارات مستدامة وفعالة.