يشهد العالم تحولات جيوسياسية واقتصادية كبيرة تتسم بتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، حيث تأتي هذه التوترات مع استراتيجية "الصين +1" لتضع منطقة جنوب شرق آسيا في مقدمة خيارات الشركات التي تسعى لضمان استقرار عملياتها وتقليل المخاطر، فهل ستتمكن المنطقة من اغتنام الفرصة لتصبح مركزاً جديداً للتصنيع العالمي؟
ولم تبرز هذه المنطقة كخيار رئيسي للشركات العالمية التي تتطلع إلى تنويع إنتاجها بعيداً عن الصين فحسب، بل دفع تصاعد التوترات بين واشنطن وبكين الشركات الصينية نفسها، لاتباع هذا النهج، حسبما ذكر تقرير نشرته شبكة (سي إن بي سي) الأميركية.
ونقلت الشبكة عن كيو يي ليم، المؤسس المشارك والشريك الإداري لشركة "مونك هيل فينتشرز"، وهي شركة لرأس المال المخاطر في جنوب شرق آسيا، قوله: "إن منطقة جنوب شرق آسيا في وضع جيد للاستفادة بشكل كبير من استراتيجية (الصين + 1) حيث تقوم كل من الشركات الأجنبية والصينية بتنويع سلاسل التوريد وعملياتها، لقد عجلت التوترات الجيوسياسية هذه الأنشطة التي بدأت خلال عمليات الإغلاق في الصين بسبب كورونا".
وتسعى استراتيجية "الصين + 1" إلى تقليل المخاطر المرتبطة بالاعتماد الكلي على سوق الصين أو سلسلة التوريد الخاصة بها من خلال تنويع عمليات التصنيع والتوسع في دول أخرى حتى مع احتفاظ الشركات بحضور لها في الصين.
وحفز هذا الأمر استثمارات أكبر في كتلة الآسيان، حيث قال خبراء اقتصاد في بنك (أو سي بي سي) في تقرير صدر في مايو الماضي، "إن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في اقتصادات آسيان بإندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند وسنغافورة وفيتنام ارتفعت إلى 236 مليار دولار في عام 2023 مقارنة بمعدل سنوي قدره 190 مليار دولار بين عامي 2020 و2022".
أسرع المناطق نمواً في العالم
وفي حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي أستاذ الاقتصاد في جامعة الزقازيق: " بعد أن كانت منطقة جنوب شرق آسيا بعيدة عن الأضواء، بات الجميع يتحدث عنها في هذه الأيام، وقد أكسبتها أرقام النمو المذهلة مكانة بارزة بين أسرع المناطق نمواً في العالم، وأصبحت الآن موضع تركيز في النقاشات الجيوسياسية، فدول هذه المنطقة لا يمكنها الاستفادة فقط من تحوط الشركات متعددة الجنسيات ضد الاحتكاكات الجيوسياسية المتصاعدة، ولكن هذه المنطقة ستصبح أيضاً على نحو متزايد مركز التصنيع الجديد المفضل".
وتتنافس منطقة جنوب شرق آسيا على أفضل الممارسات في السياسات الصديقة للاستثمار الأجنبي بهدف سد فجوة البنية التحتية لديها ولذلك تحتاج 3.15 تريليون دولار حتى عام 2030، أي ما يعادل 5.7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً لتحقيق ذلك.
ولكن تواجه دول المنطقة بعض التحديات والمتمثلة في أن أغلبها غير قادرة على منافسة إنتاج الصين لكل عامل، وتواجه فجوة تمويلية بسبب انخفاض معدلات الادخار المحلي، بالإضافة الى فجوة العملة لمواصلة دعم الاستثمار في البنية التحتية، ناهيك عماً تعانيه من تعرضها للصدمات الخارجية فيما يتعلق بحساباتها الرأسمالية المفتوحة، طبقاً لما قاله الدكتور الشناوي.
وأردف الخبير الاقتصادي الشناوي: "ونظراً لتنامي الطبقة المتوسطة في دول المنطقة، فإنها تستعد للتطور من (آسيا المصنع) إلى (آسيا المتسوقة) حيث تزدهر منصات الاقتصاد الرقمي بمزيج ديناميكي يضم الأساليب الأميركية والصينية مع المحتوى المحلي، وبذلك فإن القدرة التنافسية المستقبلية لجنوب شرق آسيا سوف تأتي إلى حد كبير من الهيكلة الإقليمية القائمة على توزيع التكلفة، والتخصص، والبنية الأساسية الجيدة".
دول جنوب شرق آسيا لن تكون بديلاً للصين بين عشية وضحاها
لكنه يرى "أن دول جنوب شرق آسيا لن تحل محل الصين بين عشية وضحاها باعتبارها قوة التصنيع في العالم، ولكي يحدث هذا، يجب أن تصبح سلاسل التوريد الخاصة بها أكثر كفاءة وتكاملاً، حيث تواجه التجارة بين دول الآسيان أحياناً الكثير من العقبات، فمن ناحية يؤدي الافتقار إلى البنية التحتية عالية الجودة إلى منع التدفق السلس للسلع منذ البداية، ومن ناحية أخرى لا توجد اتفاقيات تنظيمية وقانونية أساسية بين البلدان، حيث تقف النزاعات الإقليمية والطموحات الوطنية في طريق التوصل إلى إجماع مفيد".
ومن أجل التنافس الحقيقي مع السوق الموحدة الضخمة في الصين فسيكون لزاماً على دول هذه المنطقة زيادة الاستثمارات الأجنبية أو المحلية، ومع ذلك لا تزال الصين وجهة جذابة للاستثمار الأجنبي المباشر، وينطبق الشيء نفسه على البلدان الأخرى مثل الهند، كما يشكل الاعتماد القوي على السلع الصينية عائقاً إضافياً أمام قدرة المنطقة على التحول إلى منصة العمل العالمية الجديدة، بحسب تعبيره.
وفي مسح نشره معهد يوسف إسحاق ومعهد دراسات جنوب شرق آسيا أشارت نتائج الاستطلاع إلى تفوق الصين على الولايات المتحدة كخيار التحالف المفضل لجنوب شرق آسيا وسط التنافس المستمر بين الصين والولايات المتحدة. ومن غير المستغرب أن تظل الصين تعتبر القوة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية الأكثر نفوذاً في المنطقة، حيث اختارها 59.5 بالمئة من المشاركين.
العمالة الرخيصة مفتاح نجاح "صنع في الصين"
وينوه أستاذ الاقتصاد في جامعة الزقازيق إلى تساؤلات بعض المهتمين والخبراء عما إذا كانت الصين ستفقد مكانتها باعتبارها "مصنع العالم" وخصوصاً أن الاقتصادات الناشئة الأخرى التي تقدم العمالة الرخيصة تعمل على إضعاف الميزة التنافسية للصين. ومع ذلك، يوضح أن توفر العمالة الرخيصة هو أحد العوامل التي حافظت على شعار "صنع في الصين".
وشدد على أن الأمر سوف يستغرق أكثر من تكاليف العمالة المنخفضة وحجم العمالة الضخم، وقاعدة المواهب الواسعة، والنظام البيئي للأعمال بالنسبة للاقتصادات الناشئة لإنشاء نظام بيئي تجاري قادر على التنافس مع الصين، وأيضا سوف تضطر الدول الآسيوية على نحو متزايد إلى الانحياز إلى أحد الجانبين، وفي مثل هذه الحالة قد يتم تقييد الوصول إلى السوق الصينية أو قد تلوح في الأفق تعريفات أوسع على محتوى القيمة المضافة الصيني.
لكنه يرى "أن مثل هذا السيناريو ليس مرجحاً جداً في الوقت الحال حيث ستخسر جميع الأطراف أكثر من قدرتها على تحقيق مكاسب، ولكن الاحتكاكات الجيوسياسية المتزايدة في المنطقة تظل مصدر قلق".
تدفق الاستثمارات الأجنبية دول آسيان
من جهته، قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "في الواقع تظهر البيانات الأخيرة زيادة كبيرة في تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى دول جنوب شرق آسيا حيث ارتفعت إلى 236 مليار دولار في عام 2023 مقارنة بمتوسط سنوي بلغ 190 مليار دولار بين 2020 و2022، تأتي هذه الاستثمارات بشكل رئيسي من الولايات المتحدة، واليابان والاتحاد الأوروبي، الدول التي تعتمد على سلاسل التوريد الصينية".
وأصبحت فيتنام على سبيل المثال وجهة رئيسية لتصنيع الإلكترونيات، بما في ذلك منتجات أبل مثل أجهزة "الماك بوك" و"الآيباد" وساعات أبل، حيث يساعدها في ذلك تكاليف العمالة التنافسية والوصول إلى أسواق جديدة من خلال اتفاقيات التجارة الحرة التي جعلت من فيتنام مركزاً جذاباً للإنتاج، بحسب تعبيره.
وأوضح أن تايلاند تستفيد كذلك من استثمارات كبرى في قطاع السيارات الكهربائية، ولكن أغلبها من الصين حيث تحاول شركات صينية مثل (بي واي دي) و(غريت وول موتورز) أن يكون لها مراكز إنتاج خارج الصين حتى لا تتأثر بالنزاعات الجارية بين الصين والولايات المتحدة، منوهاً بأن ماليزيا من ناحية أخرى تشهد نهضة في قطاع أشباه الموصلات، حيث تستثمر شركات مثل (إنتل) و(إنفينيون) بشكل كبير في البلاد.
أما إندونيسيا فتستهدف أن تصبح مركزاً لتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية بفضل مواردها الوفيرة من المعادن مثل النحاس والنيكل والكوبالت. وقد دخلت الحكومة في اتفاقيات مع شركات صينية لتطوير هذا القطاع، وفقاً للقمزي.
توازن وأدوار تكاملية
ويرى الخبير الاقتصادي القمزي "أن جنوب شرق آسيا في طريقها فعلاً لتصبح مراكز تصنيع عالمية، مستفيدة من التوترات الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة، على الرغم من أن جنوب شرق آسيا تنمو بسرعة كمركز تصنيعي بديل، ومن غير المتوقع أن تحل محل الصين بالكامل، بمعنى سيكون هناك توازن جديد حيث ستلعب الصين وجنوب شرق آسيا أدواراً تكاملية في سلاسل التوريد العالمية، مما يعزز تنويع الإنتاج وتقليل المخاطر".
بالعودة إلى تقرير الشبكة الأميركية، فقد ذكر أن فيتنام أصبحت موقعاً رئيسياً للتصنيع لشركة (آبل) حيث تسعى شركة التكنولوجيا الأميركية إلى تنويع تجميع منتجاتها بعيداً عن الصين، وخصوصاً أن إجراءات الصين الصارمة بشأن كوفيد -19 واضطرابات العمال في مصنع فوكسكون الرئيسي لهواتف (آيفون) عطلت الإنتاج بشكل كبير.
وقال ينغلان تان، الشريك المؤسس والإداري في شركة (إنسيغنيا فينتشر بارتنرز): "لطالما جعل قرب فيتنام من الصين وجهة مفضلة لسلاسل التوريد لعمليات الإنتاج الخارجية التي يمكن أن تقلل بشكل كبير من تكاليف الإنتاج".
وتعد فيتنام بالفعل مركزاً رئيسياً للبحث والتطوير لشركة (سامسونغ) بالإضافة إلى كونها قاعدة تصنيع وتصدير للهواتف الذكية من (سامسونغ)، كما تمتلك مزايا إضافية تتيح لها تكاليف العمالة التنافسية وإمكانية الوصول إلى الأسواق - لديها مجموعة كاملة من اتفاقيات التجارة الحرة - مما يجعل من السهل جداً التصدير إلى أسواق أخرى ومنها الاتحاد الأوروبي، طبقاً لما قاله كاي وي آنغ، خبير اقتصاد آسيان في بنك "أوف أميركا سيكيوريتيز".
وشهدت ماليزيا توسيع شركات تصنيع أشباه الموصلات عملياتها في البلاد على مدى الأعوام الماضية، وسط التوترات الأمريكية الصينية، بما في ذلك (إنتل) و(غلوبال فاوندريز) و(إنفينيون) تقوم بإنشاء أو توسيع عملياتها في البلاد على مدار السنوات القليلة الماضية.
وقال ليم من شركة مونك هيل فينتشرز: "شهدت ماليزيا نهضة في قطاع أشباه الموصلات العريق، وجذبت استثمارات متجددة من شركات مثل (إنتل)، كما قال آنغ من بنك أوف أميركا سيكيوريتيز: "ليس فقط قصص أشباه الموصلات في ماليزيا التي تتحقق، لقد شهدت الكثير من الاستثمارات في مراكز البيانات التي دخلت حيز التنفيذ، خاصة في الشهرين الماضيين، وربما توجد قطاعات أخرى، مثل الطاقة الشمسية ومكونات المركبات الكهربائية أيضاً".
وتتمتع إندونيسيا بموارد هائلة من النحاس والنيكل والكوبالت والبوكسيت - وهي ضرورية لتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية، وقال آنغ: "إندونيسيا أيضاً دولة أخرى مثيرة للاهتمام، حيث تأمل في أن تصبح مركزاً متكاملاً للسيارات الكهربائية، ربما لا تزال في مرحلة مبكرة جداً، لكنها تتطلع إلى توسيع القدرات عبر سلسلة التوريد بأكملها".
وذكر أندرس سي جوهانسون، مدير معهد ستوكهولم لبحوث اقتصاد الصين التابع لمدرسة ستوكهولم للاقتصاد، في منشور على موقع (لينكد إن) أخيراً "إن استراتيجية (الصين + 1) ليست فقط للشركات الأجنبية في الصين، بل تدفع التطورات الجيوسياسية والتجارية الدولية المصنعين الصينيين إلى تنويع إنتاجهم جغرافيا".
وكانت سنغافورة "وجهة بارزة" للشركات التي تتطلع إلى إنشاء مقرات إقليمية وكذلك التوسع في جميع أنحاء المنطقة، وقال ينغلان تان، من شركة (إنسيغنيا فينتشر بارتنرز): "أصبحت سنغافورة على وجه الخصوص وجهة لرواد الأعمال لإدارة مقرات الشركات العالمية، مع القدرة على ذلك، على سبيل المثال، جمع الأموال من الولايات المتحدة وتوظيف مهندسين في الصين".