بعد مرور عام على التحول الاقتصادي في تركيا وتغيير نهج السياسة النقدية من التيسير إلى التشديد، لا يزال التضخم يستعصي على الحل، بل بلغ مستويات قياسية في أبريل الماضي ليصنف ضمن أعلى المعدلات في العالم، في مشهد بات محط بحث ونقاش من قبل المهتمين والخبراء لتسليط الضوء على أسباب عدم ظهور تأثير دورة التشديد النقدي على مدى عام كامل.
وتسارع تضخم أسعار المستهلكين إلى 69.8 بالمئة على أساس سنوي، في أبريل الماضي وهو الأعلى منذ أواخر عام 2022، مرتفعاً من 68.5 بالمئة في مارس، وكان أكبر ارتفاع سنوي في أسعار المستهلكين في قطاع التعليم إذ ارتفعت الأسعار 103.86 بالمئة، يليه قطاع المطاعم والفنادق 95.82 بالمئة، وارتفعت أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية 68.50 بالمئة.
معاناة الأتراك من ارتفاع الأسعار
وفي هذا السياق، سلط تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، الضوء على معاناة مواطنين أتراك من ارتفاع الأسعار وخصوصاً وجبات الطعام والخضراوات والفواكه واللحوم وتغيرها باستمرار.
وأشار التقرير إلى لجوء عديد من المواطنين في إسطنبول إلى مطعم كينت لوكانتاسي (وهو نوع من المطاعم المدعومة من قبل المدينة) والذي يصطف أمامه العشرات كل يوم للحصول على وجبة طعام بتكلفة أقل سعراً مقارنة بأسعار السوق.
ونقلت الصحيفة البريطانية عن حسين، وهو متقاعد يبلغ من العمر 67 عاماً، إنه سيعاني لولا وجود (كينت لوكانتاسي) وقال: "لا أستطيع شراء الفاكهة الطازجة أو اللحوم، الأسعار تتغير في كل مرة أذهب فيها إلى السوق"، في حين قال حسن، وهو عامل توصيل يبلغ من العمر 53 عاماً ويتناول الطعام ذاك المطعم كل يوم: "في أماكن أخرى، سأضطر إلى دفع 200 ليرة تركية (6.25 دولار) مقابل وجبة تبلغ تكلفتها 40 ليرة تركية هنا".
بدوره قال إردال جلال أكسوي، نائب الأمين العام للمدينة: "إن مطاعم كينت لوكانتاسي الـ 14 في إسطنبول تقدم يومياً حوالي 1000 وجبة بأسعار 40 ليرة تركية، والبلدية تدعم تكلفة الطعام بمقدار الثلثين. افتتاح المطاعم في عام 2022 وسط أزمة تضخم طويلة الأمد حيث وصل التضخم إلى ذروة تجاوزت 85 بالمئة لكن بعد عامين، لا يزال الطلب قوياً لدرجة أن اسطنبول تخطط لافتتاح 20 فرعاً جديداً".
تدخلات البنك المركزي بعد التحول الاقتصادي
ورفع البنك المركزي التركي معدلات الفائدة الرئيسية عدد مرات لتصل إلى 50 بالمئة من 8.5 بالمئة منذ الإصلاح الاقتصادي بقيادة وزير المالية محمد شيمشك، الذي بدأ في يونيو الماضي، وذلك بعد عدة سنوات من تنفيذه سياسة نقدية شديدة التساهل من خلال اتباع دعوات مباشرة من الرئيس رجب طيب أردوغان.
بينما أبقى البنك على أسعار الفائدة دون تغيير في أبريل الماضي، متوقعاً أن يصل التضخم إلى ذروته عند حوالي 73-75 بالمئة في مايو، ثم يبدأ في الانخفاض في النصف الثاني من العام ليصل إلى 36 بالمئة في نهاية 2024.
وقد تضاعف الحد الأقصى لسعر الفائدة الشهرية على بطاقات الائتمان، وهي وسيلة شائعة للاقتراض للمستهلكين الذين يعانون من ضائقة مالية، ثلاث مرات منذ يونيو الماضي ليصل إلى 4.25 بالمئة.
كما عززت الحكومة الضرائب وأشارت إلى أنها لن ترفع الحد الأدنى للأجور مرة أخرى هذا العام بعد ارتفاعه بنسبة 49 بالمئة في يناير وتعهدت الأسبوع الماضي بخفض الإنفاق العام على كل شيء بدءاً من السيارات الأجنبية للأسطول الحكومي وحتى تشييد المباني الحكومية الجديدة.
انخفاض قيمة الليرة أبرز أسباب الاستعصاء
وأرجع الخبير الاقتصادي الدكتور عماد الدين المصبح، أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" استعصاء حل مشكلة التضخم في تركيا بعد عام من التحول الاقتصادي إلى مزيج من العوامل المتداخلة الداخلية والخارجية وأبرزها بالنسبة للعوامل الداخلية انخفاض قيمة الليرة، إذ عندما تفقد العملة قيمتها تصبح السلع والخدمات المستوردة أكثر تكلفة ما يؤدي إلى زيادة الأسعار بشكل عام، وكذلك ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب زيادة أسعار المواد الخام والطاقة ما يؤدي إلى رفع أسعار المنتجات وهو ما يساهم في زيادة التضخم".
تأثير التشديد النقدي العالمي
أما بالنسبة للعوامل الخارجية، فأشار الدكتور المصبح إلى ما سببته الحرب في أوكرانيا من ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة على مستوى العالم الأمر الذي أثر بشكل سلبي على الاقتصاد التركي، وخاصة على معدلات التضخم، إلى جانب التشديد النقدي العالمي ولا سيما في الولايات المتحدة حيث أدى ذلك إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض في تركيا وبالتالي خروج الاموال منها طمعاً بعوائد إضافية نتيجة زيادة أسعار الفائدة.
وهذا كله شكل ضغطاً على مستويات الأسعار واستمرار ارتفاع معدل التضخم، في الوقت الذي خفضت فيه تركيا أسعار الفائدة، بحسب تعبيره.
وتحدث أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي في معرض حديثه عن عوامل أخرى أدت إلى استعصاء التضخم في تركيا مثل ضعف الثقة في الاقتصاد وعدم القين السياسي والمخاوف بشأن الاستقرار المالي، لافتاً إلى أن الاقتصاد التركي يعاني من عدم اليقين السياسي مما قد يُثبط الاستثمار ويُضعف الثقة في الليرة التركية ويقود إلى زيادة التضخم.
كما أن المخاوف بشأن الاستقرار المالي في تركيا تُثير قلق المستثمرين والمستهلكين وهذا القلق يؤدي إلى سلوكيات مثل شراء العملات الأجنبية أو تخزين السلع مما قد يُساهم في زيادة التضخم، طبقاً لما قاله الخبير الاقتصادي الدكتور المصبح.
ضعف الثقة بالاقتصاد
من جانبه، قال الرئيس التنفيذي لمركز "كروم للدراسات الاستراتيجية" طارق الرفاعي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": مشكلة تركيا مع التضخم لا تشبه حالة ارتفاع التضخم التي نتابعها في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ففي تركيا هناك تسارع في ارتفاع التضخم وبنسب مرتفعة بين 50 بالمئة و60 بالمئة و70 بالمئة خلال الأعوام الماضية، وهذا يعود إلى ضعف الثقة بالعملة المحلية وبالاقتصاد وهو ما تواجهه حالياً الحكومة والبنك المركزي التركي ولذلك لا بد من محاولة إعادة الثقة للمستثمرين وخاصة المستثمر الأجنبي".
وأشار الرفاعي إلى حصول تركيا خلال الأعوام العشرين الماضية على قروض من دول أوروبية وأن الكثير من هذه الديون كانت بالعملة الأوروبية الموحدة وبعضها بالدولار بطبيعة الحال، ومع ارتفاع التضخم احتاج الكثير من البنوك التركية إلى الدعم الحكومي والإنقاذ، لنشهد تضاعف الأسعار في جميع القطاعات وخاصة قطاعي الأغذية والإسكان وكل ذلك يؤدي إلى الضغط على المستهلك التركي وعلى القطاع المالي.
ورداً على سؤال حول إمكانية تحقيق توقعات البنك المركزي التركي ببدء التضخم بالانخفاض في النصف الثاني من العام الحالي ليصل إلى 36 بالمئة في نهاية 2024 أستبعد الرئيس التنفيذي لمركز "كروم للدراسات الاستراتيجية" تحقيق هذه التوقعات خلال الفترة المذكورة لأنه من الصعب استعادة الثقة بالاقتصاد بهذه السرعة لكه أكد في الوقت ذاته أن ذلك ليس مستحيلاً وإنما صعب جداً.
برنامج أردوغان الإصلاحي لم يؤت ثماره
وبالعودة إلى تقرير الصحيفة البريطانية، فقد أشار إلى أن برنامج أردوغان الإصلاحي حصل على استحسان المستثمرين، لكنه لم يؤت ثماره بعد بالنسبة للأتراك الذين يواجهون تضخماً مرتفعاً إلى جانب ارتفاع تكاليف الاقتراض وخفض إجراءات التحفيز التي خففت في السنوات الأخيرة تأثير نمو الأسعار.
وقالت سيلفا ديميرالب، الخبير الاقتصادي السابق في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والتي تعمل الآن في جامعة كوتش في إسطنبول: "إنه دواء مرير"، وأضافت أن المتقاعدين وذوي الدخل المنخفض "سيدفعون أكثر من غيرهم تكاليف مكافحة التضخم".
ويتلخص هدف شيمشك في قمع أزمة التضخم الطويلة الأمد التي أثارتها سياسات أردوغان السابقة، والتي ركزت على رهان فاشل على أن أسعار الفائدة المنخفضة ستعالجها بدلاً من التسبب في ارتفاع معدلات التضخم، بحسب التقرير.
وتعهد أردوغان في وقت سابق من هذا الشهر بأنه لن يكون هناك "عودة إلى الوراء" عن الخطة الجديدة، في إشارة إلى أن الحكومة لن تقدم "إغاثة مؤقتة" كما فعلت في الماضي، بما في ذلك المساعدات الضخمة قبل إعادة انتخابه في مايو 2023.
وتظهر بيانات البنك المركزي أن برنامج تركيا الجديد يعيد بناء الثقة ببطء بين مديري الصناديق الدولية، الذين ضخوا ما يقرب من 10 مليارات دولار في الأسهم التركية والديون الحكومية المقومة بالليرة خلال العام الماضي. وقد قامت وكالة ستاندرد آند بورز العالمية للتصنيف الائتماني وفيتش للتصنيفات الائتمانية برفع تصنيف تركيا هذا العام، في حين أن المعدلات المرتفعة تؤدي إلى تباطؤ نمو الإقراض.
ومع ذلك، فإن الوضع في محلات البقالة ومراكز التسوق لم يعكس بعد هذه الصورة التحسنية، بحسب التقرير الذي نقل عن هاسر فوجو، مؤسس شبكة الفقر العميق، وهي مجموعة بحثية "إن تركيا تخاطر بدخول دوامة الفقر مع تجاوز عتبة الجوع، التي قدرتها النقابات العمالية الشهر الماضي بمبلغ 17,725 ليرة تركية شهرياً لأسرة مكونة من أربعة أفراد، فوق الحد الأدنى للأجور. بحوالي 17.000 ليرة تركية في أبريل.