يشهد اقتصاد الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، مرحلة حاسمة، فبعد سنوات من النمو المتسارع، يواجه عديد من التحديات التي أدت إلى تباطؤ وتيرة تقدمه، وأبرزها تعثر القطاع العقاري، وانعدام ثقة المستثمرين، وضعف الاستهلاك.
وعلى الرغم من ظهور بعض المؤشرات الإيجابية في الوقت الراهن تدعم النمو كارتفاع الصادرات إلى جانب بعض السياسات التي اتخذتها الحكومية لتحفيز الاقتصاد إلا أن هناك مشكلات هيكلية عميقة لا تزال بكين مترددة في معالجتها وإجراء تغييرات جوهرية على اقتصادها، بحسب خبراء اقتصاد.
وفي هذا السياق، تناول مقال نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، تردد الصين في إجراء التحول الذي تشتد الحاجة إليه في البلاد وبعض أسباب هذا التردد، حيث أشار إلى أن "الحكومة وعلى الرغم من أنها طرحت سياسات وإجراءات في محاولة لوقف نزيف قطاع العقارات المتدهور، إلا أنها ظلت ترفض بعناد تمكين المستهلكين بشكل حقيقي، سواء من خلال التحويلات المالية للأسر أو الإصلاحات التي تدعم الخدمات العامة والضمان الاجتماعي".
ولفت المقال إلى أن "برنامج تشجيع الأسر على استبدال وتحديث السلع المعمرة بما في ذلك السيارات خيب الآمال بسبب صغر حجمه وفرط توجيهاته، وفي النهاية يرقى إلى مجرد تحويل لتعزيز الإنتاج الصناعي مرة أخرى، ومن خلال التركيز بشكل أكبر على دعم جانب العرض، قد تؤدي الصين إلى تفاقم القدرة الفائضة في الداخل والاحتكاكات التجارية عالمياً. إن قادة البلاد على استعداد لتحمل مثل هذه المخاطر لأن السياسة والجغرافيا السياسية أهم من الاقتصاد".
وربما لاحظ المسؤولون الصينيون أن الدعم القوي للدخل الأسري قد هيأ عدداً من الاقتصادات الغربية للانطلاق بعد الجائحة، ولكن من المحتمل أيضاً أنهم لاحظوا بقلق أن زيادة الطلب بشكل مفرط أدى إلى تفاقم التضخم، مما أدى بدوره إلى إثارة استياء الناخبين وظهور الشعبوية"، بحسب المقال.
وأعلنت الصين أخيراً سلسلة من الإجراءات الجديدة لإنعاش قطاع العقارات المتعثر بعد أن أظهرت أحدث البيانات أن أسعار المساكن تراجعت بنحو عشرة بالمئة منذ مطلع العام، حيث ألغى بنك الشعب الصيني الحد الأدنى لسعر الفائدة على قروض الرهن العقاري على القرضين الأول والثاني للمشترين الأفراد على مستوى البلاد، وخفض نسبة الحد الأدنى للدفعة الأولى للقروض العقارية، إذ خفض البنك نسبة الحد الأدنى للدفعة الأولى للمشترين لأول مرة إلى 15 بالمئة و25 بالمئة للوحدات السكنية للمرة الثانية.
كما تعهدت بكين بتقديم 300 مليار يوان (42 مليار دولار) للمؤسسات المالية، وذلك لإقراض الشركات المحلية المملوكة للدولة حتى تتمكن من شراء الشقق غير المباعة التي تم بناؤها مسبقاً.
وكانت بيانات الجمارك الصينية، أظهرت أن صادرات الصين عادت إلى النمو في أبريل 2024 بعد انكماشها الحاد في مارس الماضي، حيث نمت بنسبة 1.5 بالمئة على أساس سنوي تماشياً مع الزيادة المتوقعة في استطلاع أجرته رويترز لآراء الاقتصاديين، بعد أن انخفضت بنسبة 7.5 بالمئة في مارس.
سيطرة نظام التخطيط المركزي
وقال الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية: "إن نظام الاقتصاد المركزي المتبع في الصين، والذي يتميز بدرجة كبيرة من السيطرة والتخطيط الحكومي، يجعل من الصعب على البلاد معالجة قضاياها الاقتصادية مقارنة بالدول التي لديها سياسات اقتصادية أكثر حرية، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل متأصلة في نظام التخطيط المركزي أهمها غياب نظام التوازنات الطبيعية في الاقتصاد الحر، وهذا يجعل من قدرة الحكومة على تخصيص الموارد بشكل فعال واتخاذ قرارات اقتصادية مستنيرة تحدياً دائماً".
إن نموذج النمو الاقتصادي الذي تنتهجه الصين يعتمد بشكل كبير على الاستثمار والائتمان وهو وضع يجعل الحكومة تتردد في تنفيذ أي سياسات قد تؤثر سلباً على النمو الاقتصادي على المدى القصير، حتى لو كانت ضرورية للاستقرار على المدى الطويل، بحسب تعبيره.
المحافظة على نمو مرتفع سبب رئيسي للتردد في الإصلاح
وأوضح القمزي أن "أحد الأسباب الرئيسية لهذا التردد هو تركيز الحكومة على الحفاظ على معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، فالنمو الاقتصادي في الصين يعتبر عاملاً رئيسياً للاستقرار الاجتماعي الذي يعطي الشرعية السياسية للحكومة، والهدف الأساسي للحكومة هو الحفاظ على معدل نمو مرتفع، والذي يتم قياسه غالباً بالناتج المحلي الإجمالي، وقد أدى هذا التركيز إلى الإفراط في الاعتماد على جذب الاستثمار والائتمان في دائرة مستمرة".
وثمة عامل مهم آخر هو قلق الحكومة بشأن الاستقرار الاجتماعي وعلى سبيل المثال يعد سوق العقارات في الصين مصدراً هاماً للثروة وعاملاً رئيسياً في الاستقرار الاجتماعي، ولقد استثمر العديد من المواطنين الصينيين بكثافة في العقارات، وقد يؤدي الانخفاض الكبير في قيمة العقارات إلى خسائر مالية واسعة النطاق وإفلاسات واضطرابات اجتماعية. طبقاً لما قاله القمزي.
وأردف: "وهذا ينطبق على ما نشهده من إحجام الحكومة عن معالجة الأزمة العقارية بسبب الدور الهام الذي تلعبه العقارات في الاقتصاد الصيني، فالعقارات تعد محركاً رئيسياً للنمو الاقتصادي، وانخفاض السوق له عواقب بعيدة المدى على الاقتصاد بأكمله. ولذلك فإن الحكومة مترددة في تنفيذ السياسات التي قد تؤثر سلباً على سوق العقارات، حتى لو كانت ضرورية لمعالجة الأزمة.
وارجع الخبير الاقتصادي القمزي هذا التردد أيضاً إلى عدم وجود أدوات وسياسات فعالة ومُختبرة لمعالجة بعض القضايا، حيث نفذت الحكومة الصينية تدابير مختلفة لمعالجة أزمة العقارات، بما في ذلك تشديد الائتمان وزيادة متطلبات الدفعة الأولى لشراء العقار، ومع ذلك، كانت هذه التدابير غير فعالة إلى حد كبير في معالجة هذه المشكلة، ولا تزال الحكومة تبحث عن حلول أكثر فعالية.
اختفاء النمو المرتفع
بدوره قال على حمودي الخبير الاقتصادي والرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في "ATA Global Horizons"، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن الهوس والنمو المرتفع في الاقتصاد الصيني ربما يكون قد اختفى في الوقت الحالي بعد عقود من النمو الاقتصادي المستمر، حيث تواجه البلاد الانكماش، وتراجع ثقة المستهلك، وتراجع الاستثمار الأجنبي، وقطاع عقارات مضطرب، وارتفاع في ديون الحكومات المحلية، وقدرة فائضة في التصنيع، وقطاع خاص ترهبه بعض الحملات الحكومية، فضلاً عن تقلص القوى العاملة والشيخوخة السكانية".
وأضاف: "على الرغم كل ذلك، لا تزال الصين هي صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر شريك تجاري لأغلب البلدان، وواحدة من أكبر المقرضين الثنائيين الدوليين على مستوى العالم، ففي عام 2023، حققت الصين معدل نمو اقتصادي عند 5.2 بالمئة، وهو ما كان موضع حسد جميع الاقتصادات المتقدمة تقريباً مثل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، واليابان.
المناخ السياسي يعيق التوصل إلى حل سريع للمشكلات الاقتصادية
ولكن في حقيقة الأمر ومع هذا النمو فإن الاقتصاد الصيني ينتظر التحفيزات والإصلاحات الحكومية التي وعدت بها منذ فترة طويلة، بحسب حمودي الذي يرى أن المناخ السياسي يجعل من الصعب التوصل إلى فهم واضح للمشاكل الاقتصادية التي تواجهها البلاد ومن ثم حلها السريع.
"لقد أدت البيئة التي كانت شبه فوضوية في كثير من الأحيان خلال العقدين الماضيين إلى ظهور سمات مثل قطاع العقارات المثقل بالديون، ونظام إدارة الثروات لبعض المدن والحكومات المحلية المفلس جزئياً، ودفاتر قروض البنوك التجارية ذات الجودة المشكوك فيها، والنظام الاستغلالي لنخبة تتراوح من رجال الأعمال إلى مديري الشركات "المملوكة للدولة" وكوادر الحكومة والحزب" طبقاً بما قاله الخبير الاقتصادي حمودي.
وتحدث الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في "ATA Global Horizons" عن بعض الإصلاحات التي بدأت تحدث في الصين، بقوله: "كان أحد التغييرات الرئيسية في عام 2023 هو إنشاء الإدارة الوطنية للتنظيم المالي، والتي يشرف عليها مجلس الوزراء مباشرة، لتتولى دور لجنة تنظيم البنوك والتأمين الصينية في تنظيم الصناعة المالية، وكانت مثل هذه الإصلاحات ضرورية لملء "المناطق الرمادية (غير الواضحة)" التنظيمية".
ومع ذلك، فقد أثارت تغييرات أخرى قلق المستثمرين، بما في ذلك قانون مكافحة التجسس الذي أثار تساؤلات حول شرعية الشركات الأجنبية التي تقوم بأعمال استشارية واستخباراتية تسوقية وتجارية، بحسب تعبيره.
ويرى حمودي أن إرادة الإصلاح موجودة، ولكن التردد السياسي يعود للسعي إلى لتحقيق التوازن بين الحوافز الاقتصادية الحقيقية والإصلاحات اللازمة في الصين، ومن المتوقع رؤية تدابير تحفيز مالية ونقدية بسيطة في المستقبل القريب ومحاولات عديدة لحل مشاكل الاقتصاد الجزئي من خلال التدخلات الحكومية المباشرة.
إعادة بناء الثقة مع اللاعبين في السوق والمستثمرين
من جهته، قال مازن سلهب، كبير استراتيجي الأسواق في "BDSwiss MENA" في تصريحات سابقة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "الصين تحتاج حالياً المزيد من الشفافية الحكومية المبينة على قوانين تداول متقدمة تدفع بملايين المستثمرين الأجانب للدخول مجدداً وخلق نوع من التنافس الداخلي – الخارجي بين المستثمرين أنفسهم وبين الشركات المحلية والأجنبية، ورفع مستوى الاستثمارات الأجنبية المباشرة".
وفي معرض حديثه عن دعم الأسواق المالية المتعثرة قال سلهب: "إن قدرة الحكومة الصينية على إعادة الارتفاع للأسهم يلزمها قبل كل شي إعادة بناء الثقة مع اللاعبين في السوق وكذلك المستثمرين الدوليين وما يتطلبه ذلك من إعادة صياغة القوانين المالية وليس آخرها الثقة بأن قبضة الحزب الشيوعي الصيني لن تكون مجدداً بالانتظار كما فعلت قبل عدة أعوام مع جاك ما مؤسس شركة علي بابا العملاقة".
تعبئة الموارد
وبالعودة إلى مقال صحيفة "فاينانشال تايمز"، فقد ذكر أن "الهاجس السياسي الرئيسي للحزب الشيوعي الحاكم في الصين هو تجنب تكرار انتفاضة عام 1989، واندلعت الاحتجاجات الحاشدة جزئياً بسبب ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، وكانت أسباب التضخم آنذاك فريدة من نوعها، وتتعلق بالانتقال إلى اقتصاد السوق، لكن شبح تكرار ذلك لا يزال يقلق بكين".
والأمر الأكثر أهمية هو أنه لا يمكن للنظام السياسي والاقتصادي الصيني أن يتسامح مع تشتيت الموارد للاستهلاك الفردي، إن السمة المميزة لمثل هذا النظام، ذو النواة اللينينية، هي تعبئة الموارد من أجل التحول الاجتماعي والاقتصادي، وتفتخر النخبة الحاكمة في الصين بقدرة النظام المؤكدة على حشد الموارد للقيام بإنجازات كبيرة، وفي اعتقادهم، هذه القدرة هي التي مكنت الصين من تحديث البنية التحتية، وتسريع التصنيع، والإفلات من الفقر، وخلق معجزة تنموية"، وفقاً للمقال.
وبحسب المقال، يرى قادة الصين الحاليون قصصاً تحذيرية في الرأسمالية الأميركية التي يقودها الاستهلاك: نزع الصناعة عن المدن، والمبالغة في الأسواق المالية، وطفرة الازدهار والانكماش التي تزعزع الاستقرار، والتفكك الاجتماعي، والاضطرابات الشعبوية، ومنصات رقمية تملك ثروة ونفوذاً يضاهيان الدولة، ويفضل الرئيس الصيني شي جين بينغ حشد الموارد لدعم الاقتصاد الحقيقي، والذي يُرادف في الصين التصنيع".
اقتصاد المزايا النسبية
وذكر أنه "من الممكن أن يساعد التصنيع في ضمان الاكتفاء الذاتي، وهو ما يقدره القادة الصينيون منذ ماو تسي تونغ. لقد خفف خلفاء ماو من هذا التثبيت، ليس لأنهم أصبحوا متحولين حقيقيين لاقتصاد المزايا النسبية، ولكن بسبب الضرورة لاجتذاب رأس المال والتكنولوجيا الغربية.
وعلى عكس الاقتصادات الصناعية الأخرى، التي تميل إلى الاستعانة بمصادر خارجية للصناعات القديمة مع صعود شركاتها على سلسلة القيمة، فإن الصين لم تثق قط في تقسيم العمل العابر للحدود الوطنية، لطالما حذر استراتيجيوها بشكل مشؤوم من أن فترة الفرص الاستراتيجية، التي تشارك فيها الديمقراطيات الرأسمالية على مضض ثمار التجارة والاستثمار مع منافس مثل الصين، ستغلق في النهاية، ويمكنهم الآن أن يزعموا أن الولايات المتحدة وحلفائها يقيدون التكنولوجيا والاستثمار والوصول إلى الأسواق للشركات الصينية، طبقاً لما جاء في قال الصحيفة البريطانية.
وختم المقال أن "هذا الخوف دفع بكين إلى تنمية أكبر سلسلة توريد صناعية وأكثرها شمولاً في العالم ويتباهى صناع السياسات في الصين بأنهم الدولة الوحيدة في العالم التي تنتج في كل قطاع في التصنيف الصناعي الدولي القياسي التابع للأمم المتحدة، وتطمح الاستراتيجية الصناعية للبلاد إلى دفع المصنعين الصينيين إلى أعلى سلسلة القيمة للسيطرة على السوق المحلية وتوسيع حصصهم في السوق العالمية. ولابد من تقييد المنافسين الأجانب الذين لم يتم التغلب عليهم في سلسلة التوريد الصينية الأكثر تطوراً وكفاءة."