فيما يعمل الغرب على قدم وساق لإيجاد طرق تمكنه من مصادرة الأصول الروسية المجمدة في خزائنه، لاستغلالها في تسليح وإعادة إعمار أوكرانيا، حذر خبراء ومحللون من أن هذه الخطورة قد تعطل النظام الدولي وتهدد موثوقية الغرب لما تمثله من انتهاك للقانون والمعايير المالية الدولية، فضلاً عن أنها ستجعل المستثمرين الأجانب والدول الأخرى يفكرون عشرات المرات قبل الاستثمار في الدول الغربية.
وجمد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان وكندا أصولاً روسية بنحو 300 مليار دولار (وهي سندات وغيرها من أنواع الأوراق المالية التي استثمر فيها البنك المركزي الروسي)، إلى جانب أصول أخرى مثل منازل ويخوت وطائرات خاصة لشخصيات روسية بارزة تم فرض عقوبات غربية عليها وذلك على خلفية اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022.
ومن بين هذه الأصول يوجد نحو 6 مليارات دولار في الولايات المتحدة، بينما معظم الأصول المجمدة في أوروبا، بما في ذلك بالمنصة الدولية "يوروكلير" في بلجيكا وهي واحدة من أكبر أنظمة التسوية والمقاصة في العالم.
وكان مجلس النواب الأميركي وافق أخيراً على مشروع قانون بشأن مصادرة الأصول الروسية لصالح أوكرانيا، على أن يتم إرسال الوثيقة إلى مجلس الشيوخ للنظر فيها، حيث يضم مشروع القانون أحكاما تتعلق بمصادرة الأصول الروسية، وحظر إلغاء تجميدها، وصلاحيات تعويض كييف من خلال استخدام هذه الأموال، وتوظيفها لإعادة بناء أوكرانيا، في حين يبحث الاتحاد الأوروبي عن صيغ تتيح له استخدام عائدات الأصول الروسية المجمدة لتسليح لأوكرانيا.
وهددت روسيا بإجراءات مماثلة ومواجهة الغرب لتحديات قانونية لا نهاية لها، حيث أكد المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن الغرب لا يزال لديه في روسيا الكثير من الأموال التي يمكن استهدافها بإجراءات مضادة من موسكو.
واعتبر بيسكوف أن قرار المصادرة المحتملة للأصول الروسية، سيكون بمثابة "المسمار الأخير" في نعش النظام الاقتصادي للدول الغربية، مشيراً إلى أن موثوقية الغرب في أعين المستثمرين ستتلاشى بين عشية وضحاها بمجرد اتخاذهم قرار مصادرة الأصول الروسية المجمدة.، فضلاً عن أن مثل هذه القرارات سيكون لها آفاق قضائية واسعة".
الخبير الاقتصادي، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية هاشم عقل قال في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "هناك محاولات في مقرات الاتحاد الاوروبي لإيجاد صيغة قانونية لمصادرة الأصول والأموال الروسية المجمدة لديهم للإنفاق على تمويل الحرب وإعادة إعمار أوكرانيا، وهم يعملون على ذلك على قدم وساق، وهذه الخطوة في حال اتخاذها ستشكل ضربة قوية للاقتصاد الغربي ومصداقيته".
ما الفرق بين التجميد والمصادرة؟
بداية أوضح عقل أن تجميد أصل يعني عدم التمكن من أستخدامه أو نقله أو بيعه، مع عدم تغيير ملكيته القانونية، أما مصادرة أصل، فتعني نقل ملكيته إلى الجهة المُصادِرة، وبالتالي تتمكن من استخدام الأصل أو بيعه".
وأشار إلى أن هناك دراسات ومقترحات قانونية قيد الدراسة للخروج بموقف قانوني موحد لتبرير السيطرة على الأصول الروسية علماً أن الاتحاد الأوروبي تبنى قانوناً لحجز أرباحٍ لأصول البنك المركزي الروسي المجمدة، في أول خطوة ملموسة نحو هدف التكتل المتمثل في مصادرة الأصول الروسية واستخدامها لتمويل إعادة إعمار أوكرانيا، كما أن واشنطن تمارس الضغط على دول أوروبية، حيث تتركز معظم الأصول الروسية، للانضمام إلى هذه الإجراءات.
تداعيات قضائية
ويشير عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية إلى أن المصادرة المحتملة للأصول الروسية ستؤدي تدمير موثوقية الغرب إذ ستجعل المستثمرين الأجانب والدول الأخرى التي تستثمر في الغرب يفكرون عشرات مرات قبل الاستثمار في الدول الأوروبية والولايات المتحدة وستختفي المصداقية والثقة بين عشية وضحاها بقرار واحد، كما أن هذه الخطوة سيكون لها تداعيات قضائية واسعة للغاية، وبالطبع ستستفيد روسيا من ذلك وستدافع إلى ما لا نهاية عن مصالحها بما في ذلك في المحاكم".
وبالإضافة إلى أن قانون القوى الاقتصادية الطارئة الدولية لا يسمح بمصادرة صريحة للأصول الروسية المجمدة في غياب صراع مسلح فعلي بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن وجود أصول غربية في روسيا تعادل قيمتها أصول البنك المركزي الروسي التي جمدتها الدول الغربية في 2022 سيتم مصادرتها من قبل الحكومة الروسية دون تردد، بحسب تعبيره.
الهيمنة المالية نقطة تحول في الوضع المصرفي الغربي
ونوه عقل إلى بعض وجهات النظر قانونية والتي تتلخص في أن أوكرانيا يمكن أن تعهد بمطالبتها بالتعويضات ضد روسيا إلى مجموعة من حلفائها في مقابل الحصول على قرض، وإذا رفضت موسكو دفع التعويضات، فيمكن للحلفاء بعد ذلك استخدام أصول روسيا المجمدة لسداد القرض، ويسوغ ذلك المبدأ القانوني الذي ينص على أنه إذا كان الدائن يسيطر على أصول المدين، فإنه يستطيع مقاصة تلك الأصول مقابل دين غير مدفوع.
لكن تنفيذ مثل هذا الإجراء يوحي بأن الغرب قد فقد الثقة في قدرته على الحفاظ على هيمنته المالية العالمية، ويتجه نحو استخدام القوة للحصول على مكاسب مالية وهذا السلوك يعتبر نقطة تحول في الوضع المالي والمصرفي الغربي بأسره، طبقاً لما قاله الخبير الاقتصادي عقل.
بدورها، حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، من أن احتمال مصادرة الأصول الروسية لصالح كييف يهدد بتعطيل النظام الدولي ويثير العديد من الأسئلة، وإن استخدام الأصول الروسية المجمدة لتمويل المساعدات العسكرية لأوكرانيا قد يعتبر بمثابة انتهاك للقانون الدولي، حسب نقلت عنها صحيفة "فايننشال تايمز".
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عماد الدين المصبح، أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي، في تصريحه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن محاولة الغرب اللعب بورقة مصادرة الأصول الروسية هي لعب في إعدادات الحضارة الإنسانية نفسها. للأسف كل ما يجري من حولنا يشي بأننا وصلنا جميعاً إلى حافة هاوية الحرب الكونية (وليس العالمية) وستغدو الحرب العالمية الثانية مجرد تسلية بمقابلها".
وأضاف بقوله: "إن أثاراً نقدية عالمية سوف تخلفها عمليات المصادرة وإعادة طرح هذه الأصول في الأسواق بما يؤدي إلى إعادة توزيع السيولة العالمية مرة ثانية لصالح الغرب، ربما سوف تستفيد أوكرانيا، ولكن القسم الأكبر سوف يذهب لتسديد ديون صفقات السلاح التي صدرها الغرب الى بؤر الصراع".
من ناحية العلاقات الدولية فإن مصادرة الغرب للأصول الروسية يشكل سابقة خطيرة تُشجع الدول الأخرى على مصادرة أصول الدول الأخرى لأسباب سياسية، مما قد يُهدد الاستقرار الدولي والسلم العالمي، بحسب الدكتور مصبح.
رد الصاع صاعين
وفي حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي الدكتور ممدوح سلامة "إن الدول الغربية فقدت مصداقيتها فيما يتعلق بالاستثمار أو بالأموال الموجودة في بنوكها والتي تنتمي لدول مثل روسيا وغيرها، حيث تسعى إلى وضع اليد على أموال البنك المركزي الروسي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إضافة إلى تحويل هذه الأموال إلى مساعدة أوكرانيا في إعادة بناء بلادها".
لكن دول الاتحاد الأوروبي وأميركا يعلمون أن لديهم استثمارات ضخمة في روسيا، وبالتالي في حال مصادرة الأصول الروسية سترد موسكو عليهم الصاع صاعين وستضع يدها على كل استثمارات الدول الغربية فيها، والخسارة هنا ستكون للدول الغربية لأن استثماراتها أكبر بكثير من استثمارات روسيا فيها، فضلاً عن أن روسيا تسيطر على الموقف في أوكرانيا وستخرج منتصرة وهذه حقيقة واقعة على الأرض والانتصار يدعمه الاقتصاد المتجدد والإنتاج الصناعي والتكنولوجي والابتكار، والهزيمة هنا لن تكون لأوكرانيا وحدها، بل للولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، بحسب الدكتور سلامة.
وأشار إلى أن الاقتصاد الروسي في وضع أفضل بكثير من أولئك الذين فرضوا العقوبات علي، ومن المتوقع أن ينمو بنسبة 3.2 بالمئة في عام 2024 مقارنة بـ 2.5 بالمئة للولايات المتحدة و0.8 بالمئة للاتحاد الأوروبي.
واعتبر أن إجراء استخدام الأصول الروسية فيما لو اتخذته الدولة الغربية سيشكل حالة انتهاك صارخة لقواعد محكمة العدل الدولية والنظام والاستثماري الدولي، وأردف: "إنهم يسيئون استغلال الثقة الممنوحة للمستثمرين عندما قرروا الاستثمار في منافذ الاستثمار الغربية".