يعد القمح من الحبوب الرئيسية التي تتم زراعتها في الولايات المتحدة الأميركية، وهي تحتل المرتبة الثالثة بين المحاصيل الحقلية في البلاد، من حيث المساحة المزروعة والإنتاج والعائدات الزراعية الإجمالية بعد الذرة وفول الصويا.
ورغم أن ظروف محاصيل الحبوب في أميركا حالياً هي الأفضل منذ أربع سنوات، فإن مشتريات العديد من الأطعمة المعتمدة على الدقيق آخذة في التراجع، ما سيشكل ضربة لمزارعي القمح، حيث تتوقع وزارة الزراعة الأميركية أن تصل كمية القمح المستخدمة في الغذاء هذا العام، إلى أدنى مستوى لها منذ خمس سنوات.
ووفقاً للبيانات التي تمتد لعقد من الزمن، فقد تبين أن المطاحن في أميركا أنتجت في الأشهر القليلة الماضية، كمية أقل من الدقيق مقارنة بالفترات نفسها من الأعوام السابقة، مما يشير إلى أن الطلب على مادة الخبز الأساسية غير مرتفع.
وكان التراجع على الدقيق حاداً بشكل خاص، في قطاع الحلويات والأطعمة المصنعة، إذ أنه واعتباراً من أواخر فبراير 2024، انخفضت مبيعات وحدات البسكويت والمقرمشات بنسبة 3.4 بالمئة، مقارنة بالفترة نفسها من 2023، وذلك وفقاً لبيانات شركة NIQ لتتبع أنماط المستهلكين، في حين انخفضت مبيعات الخبز في متاجر البقالة بنسبة 2 بالمئة.
أسباب تراجع الطلب على القمح
وبحسب تقرير سابق لمورغان ستانلي، فإن هناك عدة عوامل متداخلة، وراء تراجع الطلب على الخبز والمنتجات التي تحتوي على دقيق في الولايات هذا العام، ولعلّ السبب الأبرز هو الاعتماد المتزايد من قبل الأفراد في أميركا، على أدوية إنقاص الوزن مثل Ozempic التي بدأت في إعاقة الشهية تجاه بعض الأطعمة، حيث تظهر البيانات أن الإنفاق على البقالة، لدى الأسر التي تستخدم أدوية إنقاص الوزن، تراجع بنسبة تصل إلى 9 بالمئة في الأشهر الأولى من 2024.
وبحسب بلومبرغ، فإن اللوم في هذا التراجع، يقع جزئياً أيضاً على التضخم، حيث لا تزال أسعار الاستهلاك المرتفعة، تؤثر على قدرة المتسوقين، فالأسر التي تعاني من ضائقة مالية، تحاول إهدار كميات أقل من الطعام، مع استمرار ارتفاع الأسعار.
ضربة لمزارعي القمح
ومع تراجع الطلب المحلي، سيحتاج مزارعو القمح الأميركيون بشكل متزايد، إلى البحث في الخارج للعثور على مشترين، وهذا الأمر لن يكون سهلاً، إذ خسر المزارعون الأميركيون بالفعل حصتهم في أسواق التصدير العالمية، وسط تدفق الإمدادات الرخيصة التي تقدمها روسيا، وهذا يعني أن الأسعار الأميركية ستحتاج إلى الانخفاض من أجل المنافسة، وهو ما يمثل ضربة أيضاً لمزارعي القمح الذين خرجوا للتو من فترة نمو صعبة.
ففي الربيع الماضي، ابتليت حقول القمح في أميركا بالجفاف، لدرجة أن المزارعين هجروا المحاصيل بأكبر خسارة منذ أكثر من قرن، واضطرت بعض مطاحن الدقيق الأميركية التي كانت تبحث عن الإمدادات إلى للجوء للاستيراد، بما في ذلك من بولندا وفرنسا، وذلك للمساعدة في تعويض النقص المحلي.
ومع ذلك، تعتبر وزارة الزراعة الأميركية أن 56 بالمئة من محصول القمح الشتوي هذا العام جيد أو ممتاز، وهو ضعف المعدل قبل عام.
وكان الطلب على القمح قد ارتفع خلال فترة انتشار وباء كوفيد-19، عندما أدى إغلاق المطاعم إلى زيادة الطلب على الخبز في المنازل، ما حفز إنتاج الدقيق في الولايات المتحدة، وحينها احتفظ صانعو الأغذية، بمخزونات أعلى من الدقيق، للتغلب على تعثر سلاسل التوريد في عصر كوفيد، وأيضاً لتجنب ارتفاع التكاليف بعد أن قفزت العقود الآجلة للقمح إلى مستوى قياسي بسبب الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022.
والآن، عادت الشركات بشكل كبير إلى سياسة الاحتفاظ بالكميات التي تحتاجها، بدلاً من الاحتفاظ بكميات إضافية.
اتجاه جديد للمستهلكين
ورغم التراجع الإجمالي للطلب على القمح في الولايات المتحدة الأميركية، فإن تقرير بلومبرغ كشف عن وجود بعض جيوب الطلب القوية على الأغذية التي تعتمد على الدقيق، حيث يتجه المستهلكون نحو العناصر الصحية، بعيداً عن الأطعمة فائقة المعالجة، فعلى سبيل المثال، ارتفعت مبيعات المخبوزات الطازجة وصغيرة الحجم، بنسبة 3.5 بالمئة في العام الماضي، حسبما تظهر بيانات شركة NIQ لتتبع أنماط المستهلكين، في حين شهد منتج Dave's Killer Bread، وهو منتج عضوي معبأ، ارتفاعاً بنسبة 10 بالمئة في المبيعات حتى مع انخفاض إجمالي مبيعات الخبز.
تراجع المساحة المزروعة
ويقول المهندس الزراعي أحمد القاسم، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن وزارة الزراعة الأميركية تتوقع أن تبلغ المساحة المزروعة بالقمح الشتوي والربيعي في البلاد نحو 116.1 مليون هكتار، بانخفاض من 122.5 مليون هكتار في عام 2023، ورغم أن المساحة المخصصة لزراعة القمح، انخفضت في 2024 مقارنة بعام 2023، لكن المنتجين الأميركيين يستعدون لحصاد محصول أكبر هذا العام، بعدما أدى تحسن حالة الطقس إلى تحسن ظروف المحاصيل، التي عانت في السنوات السابقة من الجفاف.
حجم الإنتاج للموسم الشتوي
ويكشف القاسم أن زراعة القمح في أميركا، واجهت خلال 2022 و2023 موجات الجفاف، التي أثرت بشكل حاد على المحاصيل والإنتاج، ولكن هذا العامل لم يعد موجوداً في 2024، إذ تلقت معظم مناطق زراعة القمح أمطاراً كافية، ما دفع وزارة الزراعة الأميركية إلى تصنيف محصول القمح الناشئ في البلاد بين الجيد والممتاز، مشيراً إلى أن محصول القمح الشتوي القاسي لعام 2023 في أميركا وصل لـ601 مليون بوشل، في حين تجمع التوقعات على أن المحصول لهذا العام سيزيد على 700 مليون بوشل، وذلك رغم تراجع المساحة المزروعة.
تراجع في حجم الاستهلاك
ويشرح القاسم أن المشكلة تكمن في تصريف هذا الإنتاج، فالغلات الكبيرة للقمح الأميركي، ستعاني من بطء في التصريف، كما أن المحصول الحالي سيكون ثاني أكبر محصول منذ عام 2019، ولكن التوقعات تشير إلى أن استهلاك القمح الشتوي القاسي، سيتراجع إلى 575 مليون بوشل هذا العام مقارنة بحجم استهلاك وصل إلى 669 مليون بوشل في عام 2023، وذلك بسبب انخفاض الطلب المحلي وصعوبة تصدير المحصول للخارج، مع استمرار الإمدادات الكبيرة القادمة من روسيا وأوكرانيا في الهيمنة على السوق العالمية بفعل أسعارها المناسبة، في وقت تخسر أميركا المعركة على الصادرات.
تأثير الهوس بالنحافة
من جهتها تقول المحللة الاقتصادية محاسن مرسل، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الهوس بالنحافة، لم تقتصر مفاعيله فقط على المبيعات القوية، التي تحققها منتجات وأدوية إنقاص الوزن، بل انعكس أيضاً على مبيعات المنتجات التي تحتوي على قمح، حيث بات قسم من المستهلكين في أميركا، يتجه نحو المنتجات الأقل احتواءً على السعرات الحرارية، وهذا ما أظهرته البيانات الرسمية الواردة من هناك، لافتة إلى أن هذا الأمر ورغم أنه مضر لمزارعي القمح، لكن انعكاساته الصحية ستكون جيدة للأميركيين، الذين أصبحوا أكثر اهتماماً بهذا الجانب، خصوصاً أن الولايات المتحدة هي من أكثر الدول التي تعاني من نسب مرتفعة في البدانة، التي لها انعكاسات مدمرة على الصحة.
عدم قدرة على المنافسة
وترى مرسل أن المشكلة الأكبر بالنسبة لأميركا، تبقى في كيفية تصريف إنتاجها من القمح إلى الأسواق الخارجية، في وقت يعتبر القمح الأميركي الأغلى في العالم، مقارنة بأنواع القمح الأخرى، فمثلاً سجل قمح الولايات المتحدة الصلب خلال شهر مارس 2024، أعلى سعر للقمح عالمياً، حيث بلغ سعر الطن المتري 372 دولاراً، تلاه القمح الكندي بسعر 371.14 دولاراً للطن المتري، فالأسترالي بسعر 356.50 دولاراً، أما القمح الأرجنتيني فقد بلغ سعره 353 دولاراً للطن، في حين بلغ سعر القمح الأوكراني 275 دولاراً للطن، أما سعر طن القمح الروسي، فتراوح بين 200 و215 دولاراً، ما ساعد روسيا على توسيع حصتها في السوق، رغم العقوبات والقيود المفروضة عليها.
الحلول المتوفرة لإنقاذ الموسم
وتضيف مرسل أن التدقيق في فرق الأسعار، يظهر سبب عدم قدرة القمح الأميركي على المنافسة في سوق التصدير العالمي، رغم أنه يتفوق على باقي أنواع القمح من حيث النوعية، ولذلك إذا أراد المزارعون الأميركيون تصريف إنتاجهم، فسيتوجب عليهم تقديم حسومات كبيرة في الأسعار، ولكن هذا السيناريو يمكن أن يتغير في لحظات، في حال قررت الصين وهي إحدى أكبر الدول المستوردة للقمح، رفع كمية استيرادها للقمح الأميركي، حيث يمكن لذلك أن يحصل بموجب اتفاق سياسي بين الإدارة الأميركية والسلطات الصينية، يتم خلاله عقد تسويات للتخفيف من الضغوط السياسية، وهو أمر حصل في السابق عدة مرات.