تشهد العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين تاريخاً معقداً، حيث تظهر تقلبات مستمرة وتحولات في السياسات والتبادل التجاري بين البلدين، وتزايدت في السنوات الأخيرة التوترات بينهما بشأن مجموعة من القضايا الاقتصادية ومن أبرزها الصراع في مجال الرقائق الإلكترونية.
وتعد الرقائق إحدى أهم الصناعات الحيوية للتكنولوجيا الحديثة، حيث تُستخدم في مجموعة واسعة من الصناعات بما في ذلك الهواتف الذكية، والحواسيب، وأجهزة الطاقة المتجددة، والسيارات الكهربائية، وأجهزة التلفاز والأجهزة الطبية والمنزلية والألعاب وحتى الصناعات العسكرية.
هذا القطاع يعتمد بشكل كبير على التوريد من الصين، التي تمتلك نصيباً كبيراً من صناعة الرقائق الإلكترونية العالمية، وبما أن الولايات المتحدة تسعى إلى تقليص اعتمادها على الصين في هذا المجال، فإنها تعمل على دفع الشركات الأميركية وغيرها لنقل أجزاء كبيرة من عملياتها الإنتاجية إلى بلدان آسيوية أخرى، مثل فيتنام، وتايوان، وكوريا والهند.
وفي هذا السياق، تبرز ماليزيا كمركز مهم لشركات أشباه الموصلات، بحسب تقرير نشرته حديثا شبكة (سي إن بي سي) الأميركية، والذي أشار إلى أن كل من (إنتل) و(غلوبل فاوندريز) و(إنفينيون) تمثل بعض شركات تصنيع الرقائق التي أنشأت عملياتها أو قامت بتوسيعها في ماليزيا على مدى السنوات القليلة الماضية.
بنية تحتية راسخة
وقال كيندريك تشان، رئيس مشروع العلاقات الدولية الرقمية في LSE IDEAS، "تتمتع ماليزيا ببنية تحتية راسخة تمتد لنحو خمسة عقود من الخبرة في الأعمال النهائية لعملية تصنيع أشباه الموصلات، لا سيما في مجال التجميع والاختبار والتعبئة".
بدوره، ذكر آيك كين تشونغ، المدير الإداري لشركة إنتل ماليزيا، "إن قرارنا بالاستثمار في ماليزيا متجذر في مجموعة المواهب المتنوعة والبنية التحتية الراسخة وسلسلة التوريد القوية"، وكانت شركة أنتل عملاق الرقائق الأميركي قالت في ديسمبر 2021 إنها ستستثمر أكثر من 7 مليارات دولار لبناء مصنع لتعبئة واختبار الرقائق في ماليزيا، ومن المتوقع أن يبدأ الإنتاج في العام الجاري.
أما الشركة الأميركية العملاقة الأخرى (غلوبل فاوندريز)، فقد افتتحت في سبتمبر الماضي مركزاً في ولاية بينانغ الماليزية "لدعم عمليات التصنيع العالمية" إلى جانب مصانعها في سنغافورة والولايات المتحدة وأوروبا، بحسب تان يو كونغ، نائب الرئيس الأول والمدير العام لشركة (غلوبل فاوندريز سينغافور).
من جهتها، قالت شركة (إنفينيون) أكبر شركة لتصنيع الرقائق في ألمانيا، إنها ستبني وحدة ثالثة لتصنيع الرقائق في كوليم، بينما تعمل شركة (نيوايز) المورد الرئيسي لشركة (إيه إس إم إل) الهولندية لصناعة معدات الرقائق، على بناء وحدة ثالثة لتصنيع الرقائق في كوليم.
ووفقاً هيئة تنمية الاستثمارات الماليزية، فإن ماليزيا تمتلك 13 بالمئة من السوق العالمية لخدمات تعبئة وتجميع واختبار الرقائق. وزادت صادرات أجهزة أشباه الموصلات والدوائر المتكاملة بنسبة 0.03 بالمئة إلى 387.45 مليار رينغيت ماليزي (81.4 مليار دولار) في عام 2023، وسط ضعف الطلب العالمي على الرقائق.
ونقلت الشبكة الأميركية عن تنكو ظفرول عزيز وزير الاستثمار والتجارة والصناعة الماليزي: "إن ماليزيا تهدف إلى التركيز على عملية تصنيع الرقائق بدلاً العمل على المراحل النهائي لهذه الصناعة".
ملاذ الشركات الغربية
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أوضح الخبير الاقتصادي حسين القمزي: "إن التحولات الناتجة عن حرب الرقائق دفعت الشركات للابتعاد عن الصين، بحثاً عن أسواق آسيوية أخرى مثل فيتنام، وتايوان، وكوريا والهند وماليزيا، مشيراً إلى أن ماليزيا بدورها أصبحت نقطة جذب قوية للاستثمارات الصناعية والتكنولوجية، وتسعى بنشاط لتثبيت أقدامها كقوة رائدة في مجال إنتاج أشباه الموصلات، مستغلة التوترات بين الولايات المتحدة والصين التي دفعت الأخيرة نحو تعزيز الاكتفاء الذاتي وابتكار رقائق إلكترونية متطورة لتجنب التأثيرات السلبية للقيود الأمريكية، بما في ذلك العقوبات وقيود التصدير على شركاتها التكنولوجية.
إن رد الصين بفرض قيود انتقامية على تصدير المعادن الأساسية، جعلها تعانق "القومية التكنولوجية" بشكل أعمق، وهذا التوجه نحو الاكتفاء الذاتي فتح المجال أمام ماليزيا لتصبح ملاذا للشركات الغربية الراغبة في إيجاد بدائل للتصنيع خارج الصين، بحسب القمزي.
مركز ناشئ للاستثمار
ورداً على سؤال حول كيفية استفادة ماليزيا من التوترات بين بكين وواشنطن لتظهر كمنافس في الساحة العالمية لأشباه الموصلات أجاب الخبير الاقتصادي حسين القمزي: "استفادت ماليزيا من الطلب المتزايد على بدائل إنتاج أشباه الموصلات، حيث تسعى الشركات في جميع أنحاء العالم لتجنب الوقوع في المياه الموحلة للعقوبات الأميركية على التكنولوجيا الصينية.، فضلاً عن أن ماليزيا تصعد الآن كمركز ناشئ للاستثمار في تصنيع الشرائح، ووراء هذا الصعود هو بحثُ المجتمع التجاري العالمي عن بديل مُعتمد غير الصين، وتجنب المشاكل والشكوك الجيوسياسية".
إرث تاريخي في سلاسل التوريد
كما أشار القمزي إلى أن ماليزيا لديها إرث تاريخي يزيد عن 50 عاماً في عمليات السلاسل التوريدية الخلفية لأشباه الموصلات - التغليف والتجميع واختبار الشرائح. هذا الإرث أتى أُكله الآن جاذباً استثمارات مباشرة أجنبية كبيرة، إذ شهدت ولاية بينانغ وحدها استثمارات بقيمة 60 مليار رينغيت في عام 2023، وهو يتجاوز إجمالي ما تلقته من 2013 إلى 2020.
وهذا الاستثمار لا يقتصر فقط على الشركات الأميركية، فهناك أيضاً نحو 55 شركة صينية من البر الرئيسي أنشأت عمليات تصنيعية في بينانغ، تركز بشكل رئيسي على إنتاج أشباه الموصلات، طبقاً لما قاله القمزي.
ويشرح الخبير الاقتصادي القمزي ثلاثة تحديات تواجه مكانة ماليزيا في السوق العالمي للرقائق هي:
- نقص حاد وحرج في المواهب، خاصة في مجالات مهندسي الكهرباء، حيث توفر البلاد فقط 10 بالمئة من إجمالي عدد الخريجين المطلوبين سنوياً.
- لعبة الشطرنج الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، ووقوع ماليزيا في منتصف تبادل إطلاق النيران، حيث يثير تدفق الشركات الصينية إلى ماليزيا مخاوف من أن العقوبات الأميركية الإضافية قد تمتد إلى التقنيات والمنتجات المصنوعة في ماليزيا.
- تهديد المنافسة الإقليمية، حيث تعمل فيتنام والهند بنشاط لتطوير صناعات أشباه الموصلات الخاصة بهما، مدفوعتان بحوافز دولية جذابة وقوى عاملة هندسية أكبر، بينما تسعى ماليزيا لتعزيز موقعها في المشهد التقني العالمي.
مشكلات في وفرة الموارد البشرية والرواتب
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية هاشم عقل في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية أن ماليزيا تستفيد وتستغل بشكل جيد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين وخاصة في صناعة الرقائق حيث رحلت العديد من الشركات الصينية المختصة في صناعة الرقائق إلى ماليزيا تجنبا للعقوبات الأميركية.
لكن عقل في الوقت ذاته يشير إلى أن مشكلة ماليزيا وخاصة في صناعة الرقائق أنها لا تمتلك ما يكفي من الموارد البشرية عالية الجودة لتطوير صناعة أشباه الموصلات، لأنها أساساً تعاني من مشكلة الرواتب، حيث يختار العديد من العمال الماليزيين المهرة، مثل المهندسين والفنيين، العمل في سنغافورة، حيث الرواتب أعلى.
وتعتبر الأجور المنخفضة مشكلة نظامية في الاقتصاد الماليزي ما يؤدي إلى حلقة مفرغة حيث يخلق السوق فرص عمل، ولكن لا يوجد عدد كاف من العمال المهرة، وماليزيا هي حالة نادرة من حيث متوسط الراتب الشهري في الصناعة التحويلية، بحسب عقل.
وذكر عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية أن ماليزيا تعد اليوم سادس أكبر مصدر لأشباه الموصلات في العالم، وتمتلك 6 بالمئة من حصة السوق العالمية وبعد انتهاء مشاريع للمستثمرين سوف تزيد حصتها.