تتقدم الهند بقوة في صناعة الرقائق، معتمدة على توجهاتها الاستراتيجية ومواردها الهائلة، انطلاقاً من إدراكها بأن هذه الصناعة تمثل محرك الاقتصاد الرقمي العالمي، ليس هذا فحسب، بل "تريد الهند أن تكون من بين أكبر خمسة منتجين لأشباه الموصلات في العالم خلال الأعوام الخمسة المقبلة بحسب تصريحات أشويني فايشناو، وزير الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات والسكك الحديدية والاتصالات في الهند.
وأوضح فايشناو أن الهند تعتبر نفسها "شريكاً موثوقاً به في سلسلة القيمة لمصنعي الأجهزة الإلكترونية، والإلكترونيات الصناعية والدفاعية، وإلكترونيات الطاقة، وعملياً كل مصنع للإلكترونيات، يتطلب تصميم أشباه الموصلات وتصنيعها".
وفيما لا يزال العالم يشهد "معركة شرسة" تتأجج فيها التوترات بين الولايات المتحدة والصين على صناعة الرقائق، حيث لا يبدو في الأفق أي علامات على قرب انتهاء هذه المعركة مع استمرار الولايات المتحدة بتعزيز جهودها لخنق الصين بهذه الصناعة، يتساءل مراقبون فيما إذا كانت الهند ستشكل مصدر قلق جديد لأميركا في هذا المجال؟
ويرى خبراء اقتصاد في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن الهند تظهر كقوة ناشئة في صناعة أشباه الموصلات وصعودها في هذا المجال قد يمثل تحدياً للولايات المتحدة، نتيجة ما تحققه الشركات الهندية من منافسة جديدة لشركاتها، لكن في الوقت ذاته يؤكد الخبراء أن الهند تتمتع بتوقيت فريدة لتعزيز مشاركتها بشكل كبير في سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات والمساهمة في زيادة مرونة سلسلة التوريد في هذا القطاع الحيوي، ومن الحكمة أن تعمل الهند والولايات المتحدة معاً لتحقيق مثل هذه النتيجة ذات المنفعة المتبادلة.
طموحات تستند على أسس متينة
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" يقول الخبير الاقتصادي الإماراتي حسين القمزي: "طموحات الهند لتصبح لاعباً مهماً في صناعة أشباه الموصلات مبنية على أسس متينة، فهي مدعومة بمبادرات حكومية استراتيجية، وبقوة عمل كبيرة وماهرة، وإمكانات سوقية ضخمة، وعلى الرغم من استمرار التحديات، قد يؤدي نجاح الهند في هذا القطاع إلى إعادة تعريف سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات، مقدماً فرصاً جديدة للتعاون والمنافسة، حيث تعمل الحكومة الهندية بنشاط على تعزيز تصنيع وتصميم أشباه الموصلات من خلال حوافز استثمارية كبيرة، بهدف تقليل اعتماد البلاد على واردات أشباه الموصلات وايجاد موطئ قدم لها في سلاسل الإمداد العالمية".
ولا ننسَ كذلك أن الهند نفسها مستهلكة لأشباه الموصلات وبحاجة إلى تقليل تعرضها لقيود الطلب العالمية، فالهند لا تهدف فقط إلى تلبية الطلب الداخلي، ولكن أيضاً تطمح لتصبح لاعباً رئيسياً في المشهد العالمي لأشباه الموصلات، بحسب القمزي الذي توقع أن يصل الطلب على أشباه الموصلات في الهند إلى 55 مليار دولار بحلول عام 2026، مدفوعاً بقطاعات مثل الهواتف الذكية ومكونات السيارات والحوسبة.
وأوضح أن هذا النمو يشكل جزءاً من طموح أوسع لزيادة حجم سوق أشباه الموصلات الهندي إلى أكثر من 100 مليار دولار بحلول عام 2030، ما يخلق 600,000 وظيفة إضافية، مع الاستثمارات الاستراتيجية والشراكات، بما في ذلك إنشاء مصانع تصنيع أشباه الموصلات من قبل اللاعبين العالميين والمحليين الكبار.
ويشرح القمزي أن قوة الهند تكمن في إمكانات سوقها الضخمة، والطبقة المتوسطة المتنامية، وقاعدة المستهلكين الكبيرة لمنتجات أشباه الموصلات، والكم الكبير من المواهب الهندسية، إذ أن البلاد هي موطن لحوالي 20 بالمئة من قوة عمل تصميم أشباه الموصلات في العالم، والتي تلعب دوراً رئيسياً في تطوير الشرائح العالمية، إلى جانب السياسات الحكومية مثل برنامج الحوافز المرتبط بالإنتاج (PLI) لتصنيع الإلكترونيات والتي تزيد من جاذبية الهند لاستثمارات أشباه الموصلات.
رحلة ليست خالية من التحديات
يؤكد الخبير الاقتصادي القمزي أن الرحلة نحو أن تصبح قوة عالمية في مجال أشباه الموصلات ليست خالية من التحديات، إذ تواجه الهند منافسة من عمالقة أشباه الموصلات المستقرين مثل الولايات المتحدة، والصين، وكوريا الجنوبية، وتايوان. علاوة على ذلك، تحتاج الهند إلى معالجة التحديات الداخلية مثل ارتفاع تكاليف الأراضي والطاقة والعمالة، والتي كانت تمثل عوائق تاريخية أمام المستثمرين.
وتمتلك تايوان حوالي 46 بالمئة من الطاقة العالمية لمسبك أشباه الموصلات، تليها الصين (26 بالمئة) وكوريا الجنوبية (12بالمئة) والولايات المتحدة (6 بالمئة) واليابان (2 بالمئة)، وفقًا لشركة معلومات السوق " TrendForce".
وقد يمثل صعود الهند في قطاع أشباه الموصلات بالنسبة للولايات المتحدة تحديات وفرصاً، فمن جهة، قد تقدم صناعة أشباه الموصلات الهندية القوية منافسة جديدة للشركات الأميركية، خاصة في بعض فئات السوق، ومن جهة أخرى، ونظراً للتوترات الجيوسياسية الحالية والضعف في سلاسل التوريد الذي كشفت عنه جائحة كوفيد-19، يمكن أن يسهم وجود قدرة تصنيعية قوية لأشباه الموصلات في الهند في تنويع سلاسل التوريد العالمية، هذا التنويع حاسم للتخفيف من المخاطر المرتبطة بالاعتماد المفرط على عدد محدود من مراكز التصنيع، خاصة في سياق التوترات بين الولايات المتحدة والصين، وفقاً للقمزي.
القلب النابض للاقتصاد الرقمي
ومن مصر يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "تمثل أشباه الموصلات القلب النابض للاقتصاد الرقمي العالمي الحديث، وهي صناعة من المتوقع أن تنمو لتصبح صناعة بقيمة 588 مليار دولار في عام 2024 والتي تحفز 7 تريليون دولار أخرى في النشاط الاقتصادي العالمي سنوياً وتدعم مجموعة من التطبيقات النهائية مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، ولأن أشباه الموصلات تمد كل الأجهزة الحديثة بالطاقة ما يعني إمكانية الوصول لأن تتمتع أشباه الموصلات الأكثر تطوراً بميزة الريادة في القدرة على تطوير وتصنيع المنتجات الأكثر ابتكاراً".
ولكن لماذا تعطي الهند أولوية للاستثمار في أشباه الموصلات؟
الدكتور الشناوي يجيب على التساؤل بقوله: "السؤال يستحق الدراسة والبحث وفيما يلي نعرض لتلك الأسباب التي تدفع الهند لإعطاء أولوية للاستثمار في أشباه الموصلات على العديد من الأولويات المتنافسة الأخرى:
• إن تعزيز نشاط التصنيع في قطاعات التكنولوجيا الفائقة لا يوفر مصدراً كبيراً لفرص العمل ذات القيمة المضافة العالية والأجور فحسب، بل من الممكن أن يؤدي إلى خلق فرص عمل كبيرة وتأثيرات اقتصادية مضاعفة.
• من الممكن أن يحقق النشاط تأثيرات هائلة غير مباشرة وهي تأثيرات "التعلم بالممارسة" في بقية اقتصاد الهند الذي يعتمد على التكنولوجيا الفائقة.
• هناك تأثيرات كبيرة "للتعلم بالممارسة" في استراتيجيات صنع السياسات اللازمة لجذب الاستثمار في صناعة الرقائق، حيث يتوقع انتقال المعرفة إلى صناع السياسات الهنود حول ما يلزم لجذب تصنيع أشباه الموصلات إلى الحد الذي توضح فيه كيفية تنافس الهند على قطاعات التكنولوجيا المتقدمة الأخرى.
• سعي الهند إلى تحقيق التوازن من خلال مستويات أكبر من الإنتاج المحلي لأنها تعاني من عجز تجاري كبير في منتجات أشباه الموصلات، إذ بلغت واردات الهند من المعدات الكهربائية والإلكترونية 67.6 مليار دولار في عام 2022. وشمل ذلك ما يقدر بنحو 15.6 مليار دولار من أشباه الموصلات، وهو ما يقرب من ضعف واردات الهند من أشباه الموصلات البالغة 8.1 مليار دولار في العام السابق. على مدى السنوات الثلاث الماضية، زادت واردات الهند من الرقائق بنسبة 92 بالمئة.
• يلعب عامل الهيبة دوراً هاماً حيث تستحق الهند الاحتفاء والثناء على هبوطها الأخير لمركبتها على سطح القمر ما يجعلها واحدة من أربع دول فقط حققت هذا الإنجاز المثير للإعجاب بشكل لا يصدق ورغبة الهند الآن في الانضمام إلى مجموعة مختارة من الدول التي تصنع أشباه الموصلات على نطاق تجاري.
عوامل تجعل من الهند منافساً عالمياً
وحول التوقعات بأن تصبح منافساً عالمياً في صناعة الرقائق وإمكانية منافستها للولايات المتحدة قال أستاذ الاقتصاد في جامعة الزقازيق الدكتور الشناوي: "لا شك أن الهند تحاول ألا تقف موقف المتفرج السلبي في مجال الجغرافيا السياسية العالمية عن طريق تطوير نظام بيئي متكامل من تصميم وتصنيع الرقائق إلى توريدها واحتضان المواهب بدلاً من التركيز على جانب واحد من هذه الصناعة، والاستفادة من التوترات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، ويتزامن ذلك مع قرار معظم المنتجين العالميين تنويع سلاسل التوريد بعيداً عن الصين، لذلك تم تفضيل الهند لعمليات التصنيع الخلفي والامامي مستقبلاً".
وأوضح أن الولايات المتحدة قدمت مبادرة مع الهند بشأن التكنولوجيا الحرجة الناشئة والتي تهدف الى تحفيز الجهود في مجال التعاون التكنولوجي، وصدقت على قانون رقائق التكنولوجيا وهو ما يمثل ضخاً بقيمة 52.7 مليار دولار في هذا القطاع، لكن التصنيع المحلي باهظ الثمن، ووفقاً لأحد التقديرات فإن تكلفة تصنيع الرقائق في الولايات المتحدة ستزيد بنسبة 55 بالمئة، كل ذلك خلق طلباً على مركز بديل لإنتاج أشباه الموصلات بأسعار معقولة.
وفي ضوء ما سبق يعرض الشناوي العوامل التي تجعل من الهند في المستقبل المنظور منافساً عالمياً في صناعة الرقائق كما يلي:
• بيئة سياسة تصنيع أشباه الموصلات والإلكترونيات، حيث قدمت الحكومة الهندية بعضاً من أكثر الحوافز سخاءً في العالم لجذب أشباه الموصلات وأنشطة التصنيع، عبر كل مرحلة رئيسية من مراحل الإنتاج التصميم، والتصنيع، ولتسريع تطوير النظام البيئي لتصميم أشباه الموصلات في الهند، أنشأت الهند مخطط الحوافز المرتبطة بالتصميم (DLI)، والذي يقدم استثماراً مطابقاً بنسبة 50 بالمئة "مرتبطًا بتصميم المنتج" من الحكومة الهندية لدعم إطلاق المشاريع وحوافز مرتبطة "بنسبة 4-6 بالمئة. بالإضافة الى هو مخطط الحوافز المرتبطة بالإنتاج الذي تبلغ قيمته 20 مليار دولار.
• لتحفيز البحث والتطوير في قطاع أشباه الموصلات، تم تخصيص 2.5 بالمئة من تمويل برنامج Semicon India لأنشطة البحث والتطوير في مجال التعبئة والتغليف، إذ تم إنشاء مركز أبحاث أشباه الموصلات في الهند (ISRC)، وهو مركز مستقل غير ربحي لأبحاث أشباه الموصلات على مستوى عالمي، وهذه الاستثمارات موضع ترحيب ومطلوبة، لكنها تشير إلى حاجة الهند إلى تعزيز كثافة البحث والتطوير الوطنية.
• البيئة التنظيمية، إذ أن أحد المجالات التي حققت فيها الحكومة المركزية والولايات الهندية تقدماً كبيراً بالفعل هو إدخال أنظمة النافذة الواحدة. الذي يهدف إلى توفير منصة واحدة لتمكين تحديد والحصول على الموافقات والتصاريح التي يحتاجها المستثمرون ورجال الأعمال والشركات في الهند.
• تحصيل الضرائب، حيث قامت الهند بتبسيط نظامها الضريبي بشكل كبير من خلال تطبيق ضريبة السلع والخدمات ولزيادة القدرة على التنبؤ، ألغت الهند الضرائب بأثر رجعي، وبالتالي من الممكن أن يشجع تدفق الاستثمار الأجنبي في الهند ويخلق نظاماً ضريبياً شفافاً وجديراً بالثقة للمستثمرين العالميين.
• تقديم الإعفاءات الضريبية للبحث والتطوير، وهي أداة مهمة أخرى لتشجيع الاستثمار في الأعمال التجارية، حيث أن الهند احتلت المرتبة 26 من حيث الإعانات الضريبية للبحث والتطوير، وبلغ معدل دعم البحث والتطوير 8.2 بالمئة، وهو أقل قليلاً من المعدل الأميركي البالغ 9.5 بالمئة ويمكن لمزيد من التحسينات في هذا المجال أن يعزز جاذبية الهند كوجهة للاستثمار في أشباه الموصلات.
• سياسة العمل، لقد قطعت الهند خطوات كبيرة في إصلاح سياسات سوق العمل لتشجيع الاستثمار.
منفعة متبادلة بين الهند والولايات المتحدة
وتتمتع الهند بلحظة فريدة لتعزيز مشاركتها في سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات والمساهمة في زيادة مرونة سلسلة التوريد في هذا القطاع، ومن الحكمة أن تعمل الهند والولايات المتحدة معاً لتحقيق مثل هذه النتيجة ذات المنفعة المتبادلة، بحسب الشناوي الذي أشار إلى بعض السيناريوهات المستقبلية التي يمكن أن تتبعها الهند في هذا الصدد والمتمثلة في، الاستثمار في الطاقة منخفضة التكلفة وإمكانية الوصول الى المياه والبنية التحتية، إقامة الشراكة بين القطاعات مع مؤسسات التعليم العالي لتنمية القوة العاملة الماهرة، تطوير سلاسل القيمة المحلية الداعمة لتصنيع أشباه الموصلات، وتحفيز الشركات على نقل التصنيع إلى الهند وتحسين ممارسة الاعمال التجارية.