فيما لا تزال رياح التضخم قائمة في الولايات المتحدة مع ارتفاع التضخم في شهر فبراير الماضي بشكل مخالف للتوقعات، يتخوف مستثمرون ومراقبون من أن تعكر هذه الرياح "التضخمية" صفو مداولات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بشأن أسعار الفائدة، وأن تؤثر على توجهاته بالبدء بخفضها المتوقع في شهر يونيو المقبل؟
وارتفع معدل التضخم للشهر الثاني على التوالي، في أكبر اقتصاد بالعالم في ظل ارتفاع تكاليف البنزين والمعيشة، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين إلى 3.2 بالمئة على أساس سنوي في فبراير الماضي، بعكس توقعات بأن يظل التضخم دون تغيير عن مستواه في يناير عند 3.1 بالمئة، وفقاً لبيانات وزارة العمل الأميركية.
لكن على أساس شهري، ظل مؤشر أسعار المستهلكين دون تغيير عن مستواه في شهر يناير عند 0.4 بالمئة، وتراجع مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي، والذي يستثني أسعار الغذاء والطاقة إلى 3.8 بالمئة، إذ كانت التوقعات ترجح انخفاض المؤشر إلى 3.7 بالمئة في فبراير من 3.9 بالمئة في يناير الماضي.
وكان معدل التضخم في الولايات المتحدة، سجل أعلى مستوياته في أكثر من 40 عاماً عند 9.1 بالمئة في يونيو 2022.
تخفيض الفائدة يعتمد على مسار الاقتصاد
أما بالنسبة لأسعار الفائدة، فقد أبقاها الاحتياطي الفيدرالي في 31 يناير الماضي للمرة الرابعة على التوالي، دون تغيير، لتظل عند مستوى يتراوح بين 5.25 و5.5 بالمئة، وهو الأعلى منذ 22 عاماً، في حين توقف عن رفع الفائدة للمرة الأولى في سبتمبر 2023 وأبقى عليها دون تغيير، وذلك بعد زيادتها 11 مرة منذ مارس 2022، لكنه ألمح عدة مرات إلى خفضها في الأشهر المقبلة بدءاً من يونيو 2024.
وإلى جانب مخاوف المراقبين والخبراء من عناد التضخم وإمكانية مواجهة الولايات المتحدة دورة تضخمية جديدة، كان رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، جيروم باول، قد أكد خلال مارس الجاري، لأعضاء الكونغرس أن القرارات المقبلة بشأن موعد خفض أسعار الفائدة ووتيرته ستعتمد فقط على البيانات الاقتصادية، مضيفاً "إن تخفيضات أسعار الفائدة ستعتمد حقاً على مسار الاقتصاد، وينصب تركيزنا على الحد الأقصى من التوظيف واستقرار الأسعار، والبيانات الواردة لأنها تؤثر على التوقعات، وهذه هي الأشياء التي سنضعها في الاعتبار".
مشكلة التضخم في طبيعة ارتفاعه ومدى ديمومته
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، قال مازن سلهب كبير استراتيجي الأسواق في "BDSwiss MENA": "الحقيقة التي لا جدال فيها أن التضخم الأميركي يبقى عنيداً ومرتفعاً بأعلى من هدف الفيدرالي الأميركي الذي تم تحديده سابقاً عند 2 بالمئة حيث وصل الشهر الفائت في فبراير 2024 إلى 3.2 بالمئة مرتفعاً قليلاً عن الشهر الذي سبقه عند 3.1 بالمئة، لا نعتقد أن المشكلة أو التحدي الأكبر يكمن في الارتفاع بحد ذاته لأنه نسبياً محدود، بل في طبيعة الارتفاع ومدى ديمومته التي قد تجبر الفيدرالي الأميركي على تعديل جدول تخفيض الفائدة إلى تاريخ ما بعد يونيو المقبل حيث تتوقع الأسواق أول خفض للفائدة بعد عامين كاملين من البدء برفعها ووصولها إلى 5.5 بالمئة حالياً، أعلى مستوى في عقدين من الزمن".
وأوضح سلهب أن الارتفاع في التضخم الشهري من 0.3 بالمئة إلى 0.4 بالمئة كان بتأثير من الارتفاع في تكاليف المأوى وأسعار البنزين وهذه عوامل مؤقتة نسبياً، وهذا خبر جيد للفيدرالي الأميركي والمراهنين على الأسهم ومن يراهن على تخفيض الفائدة بأسرع من التوقعات.
السياسة النقدية لا تعتمد على بيانات شهر واحد
لكن مازن سلهب يرى أن "الموضوع أكثر تعقيداً وشموليةً من الأرقام الرئيسية وهنا لابد من الإشارة الى نقطتين مهمتين الأولى أن السياسة النقدية المتكيفة للفيدرالي الأميركي وجدت لتبقى، والثانية أن الفيدرالي لن يعتمد على أرقام شهر واحد في تحديد سياسته النقدية، بمعنى أن الضعف الذي أظهره تقرير الوظائف الأميركية الأخير وارتفاع البطالة في الشهر الفائت لن يكون كافياً في إجبار الفيدرالي على تخفيض الفائدة".
من الواضح أن الوصول إلى 2 بالمئة كهدف موضوع للتضخم لن يكون سهلاً وسيعود الفيدرالي الأميركي إلى نقطة جوهرية مفادها لمن ستكون الأولوية لتخفيض الفائدة أو محاربة التضخم لتخفيضه إلى 2 بالمئة، جميع هذه العوامل تدفعنا للاعتقاد أن الفيدرالي لن يكون مستعجلاً في تخفيض الفائدة ولن يكون متساهلاً في تغيير السياسة المتشددة وقد تحدث مفاجأة غير متوقعة للمراهنين على الأسهم، طبقاً لما قاله كبير استراتيجي الأسواق في "BDSwiss MENA".
رياح التضخم لا تزال قائمة
من جانبه يرى كين غريفين، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة (Citadel): "إن رياح التضخم لا تزال قائمة ولا ينبغي لبنك الاحتياطي الفيدرالي أن يخفض أسعار الفائدة بسرعة كبيرة، موضحا إن الأمر سيكون أكثر تدميراً إذا اضطروا إلى تغيير الاتجاه بعد خفض أسعار الفائدة في البداية"، وفقا لـ CNBC.
في حين قالت كاثي جونز، كبيرة استراتيجيي الدخل الثابت في "تشارلز شواب "الأرقام المتوفرة حول التضخم لم تكن أخباراً رائعة بالنسبة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، لكن الأسواق لا ترى أنها تشكل تهديداً كبيراً لخفض أسعار الفائدة في وقت لاحق من العام".
بدوره أشار جيفري روتش، كبير الاقتصاديين في "LPL Financial"، إلى أن "مسار انخفاض التضخم على المدى الطويل ربما لم يتغير، لكن الطريق إلى هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 بالمئة سيكون متقلباً و"نتوقع أن نرى الأسواق تكافح مع ما يعنيه هذا بالنسبة لسياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي."
المستثمرون سيحثون عن أدلة جديدة لبدء الفيدرالي خفض الفائدة
من جهته، قال محلل أول لأسواق المال في مجموعة إكويتي، أحمد عزام في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي خلال الأشهر الثلاثة الماضية بنسبة سنوية بلغت 4.2 بالمئة، وهو أعلى مستوى منذ يونيو. وهذا هو آخر تقرير رئيسي عن التضخم قبل اجتماع البنك الاحتياطي الفيدرالي الأسبوع المقبل، ومع توقع أن يبقي صناع السياسة النقدية أسعار الفائدة ثابتة للاجتماع الخامس على التوالي، سيبحث المستثمرون عن أدلة حول متى سيبدأ الفيدرالي في خفض تكاليف الاقتراض".
التضخم يثبت عناده
إن تقرير التضخم الأميركي يضيف دليلاً إضافياً على أن التضخم يثبت عناده، الأمر الذي يجعل الفيدرالي حذر من تخفيف السياسة النقدية في وقت مبكر هذا العام، اذ كان رئيس الفيدرالي جيروم باول قد ذكر في الأسبوع الماضي بأنهم يقتربون من مستوى الثقة الذي يحتاجون إليه لبدء خفض أسعار الفائدة، لكن بعض أعضاء الفيدرالي أعربوا عن رغبتهم في رؤية تراجع أوسع في الأسعار أولاً، لذا فإن قراءة التضخم لن تعطي التفاؤل بتخفيض الفائدة بشكل أسرع في ظل سوق عمل جيد ونمو اقتصادي مرن، وفقاً لعزام.
وأشار محلل الأسواق إلى أن فئة المسكن والبنزين ساهما بأكثر من 60 بالمئة من إجمالي زيادة التضخم الشهري، وارتفعت أسعار السيارات المستعملة والملابس والتأمين على المركبات وتذاكر الطيران والتي سجلت أكبر تقدم شهري منذ مايو 2022، وارتفعت أسعار المسكن، وهي أكبر فئة ضمن الخدمات بنسبة 0.4 بالمئة، متباطئة من القفزة الكبيرة في يناير.
وباستثناء الإسكان والطاقة، ارتفعت أسعار الخدمات بنسبة 0.5 بالمئة مقارنة بشهر يناير، متراجعة من 0.8 بالمئة في الشهر السابق. وفي حين أكد صناع السياسة النقدية على أهمية النظر إلى مثل هذا المقياس عند تقييم مسار التضخم في البلاد، فإنهم يحسبونه على أساس مؤشر منفصل، بحسب عزام الذي أوضح أن هذا المقياس، المعروف باسم مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي، لا يضع وزناً كبيراً على المأوى كما يفعل مؤشر أسعار المستهلك. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي يقترب كثيراً من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 بالمئة.
ومن المقرر صدور أرقام نفقات الاستهلاك الشخصي لشهر فبراير في وقت لاحق من هذا الشهر.
كان الانخفاض المستمر في أسعار السلع خلال معظم العام الماضي يوفر بعض الراحة للمستهلكين - لكن هذا ربما بدأ يتغير. وارتفعت أسعار السلع الأساسية، التي تستثني السلع الغذائية والطاقة، للمرة الأولى منذ شهر مايو، بحسب تعبيره.
وأضاف محلل أول لأسواق المال في مجموعة إكويتي" "لدي مخاوف بأن يكون التضخم عنيد بشكل أكبر مما تعتقده الأسواق، وأن نواجه موجة تضخم أخرى في المستقبل كما حصل تاريخياً في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ما قد يضيف حالة من عدم اليقين بتحركات الفيدرالي بوتيرة تخفيض الفائدة وعدد التخفيضات، لذلك الفيدرالي قد لخص جُلّ المخاوف بأنه حالياً يحتاج الثقة في البيانات الاقتصادية، أي أنه ليس لديه الثقة الكافية حالياً، وهو ما يدعو للقلق فعلاً".
في أواخر العام الماضي، قال مؤسس معهد ميلكن المستثمر الشهير مايكل ميلكن إن الفيدرالي سيتأكد من أنه قضى على التضخم قبل البدء في خفض أسعار الفائدة لتجنب تكرار ما حدث في السبعينات، بحسب شبكة CNBC.
سيناريو السبعينات
في سبعينيات القرن الماضي، عانى العالم من ارتفاع معدلات التضخم بما في ذلك اقتصاد أميركا التي عانت من التضخم المفرط، ما اضطرها في النهاية لرفع أسعار الفائدة بشكل عنيف.
شهدت تلك الفترة زيادة كبيرة في الصرف الحكومي لأسباب اقتصادية وعسكرية (حرب فيتنام والحرب الباردة)، ترافق ذلك مع إلغاء معيار الذهب وتعويم العملات وصولاً إلى الأزمة السياسية في حرب 1973 التي أدت إلى ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار النفط، ما أدى إلى وصول التضخم إلى 12 بالمئة.
بدأ التضخم الكبير في الولايات المتحدة الأميركية في أواخر عام 1972، ولم ينتهِ سوى في أوائل الثمانينيات، ويصف الاقتصادي الأميركي جيرمي سيجل هذه الفترة في كتابه "الأسهم على المدى الطويل"، باعتبارها أكبر فشل لسياسة الاقتصاد الكلي الأميركي في فترة ما بعد الحرب.
في ذلك الوقت، تأخر الفيدرالي الأميركي في التعامل مع ارتفاع التضخم المستمر، ما اضطره للتدخل بشكل متسارع وقوي في وقتٍ لاحق ليقفز بسعر الفائدة إلى 16 بالمئة، والنتيجة كانت الدخول في ركود اقتصادي عنيف استمر حتى منتصف الثمانينيات.
يذكر أن قبل هذه الأوقات العصيبة التي شهدها الاقتصاد الأميركي، كانت تسود فترة بدا فيها الاقتصاد مزدهرًا، مما أشعر الشعب الأمريكي بالراحة بعد أن انخفضت نسبة البطالة مؤقتًا، وشهد الاقتصاد نموًا قويًا في عام 1972، مما جعل الأمريكيين يعيدون انتخاب رئيسهم ريتشارد نيكسون.