أحداث وتطورات ساخنة شهدها الاقتصاد المصري في الربع الأول من العام الجاري الذي لم ينته بعد، وبما يعكس حقيقة التوقعات المرتبطة بأن 2024 ستكون سنة مفصلية في تاريخ الاقتصاد المصري عموماً، بعد جملة من المطبات والعقبات التي واجهته على مدى الأعوام الأربعة الماضية بشكل خاص، والتي شهدت ضغوطاً تضخمية غير مسبوقة، ومع توسع الفجوة التمويلية بالبلاد.
تشير الخطوات الأخيرة، والتي تُوصف بكونها خطوات "تاريخية وغير مسبوقة" إلى أن اقتصاد مصر يقف أمام "مفترق طرق" وسط إجراءات من شأنها إعادة تشكيل اتجاهاته ومسار الأسواق والقطاعات المختلفة.
ومن الإعلان عن تفاصيل أكبر استثمار أجنبي في تاريخ مصر (صفقة رأس الحكمة)، والتي أعطت الأسواق دفعة قوية في الأسبوعين الماضيين نتج عنها ارتفاع الجنيه أمام الدولار في السوق الموازية بنسبة تصل إلى نحو 40 بالمئة من المستويات التي قد اختتم بها العام 2023، وحتى قرارات المركزي المصري في اجتماعه الاستثنائي، الأربعاء 6 مارس، فإن تلك التطورات تضع الاقتصاد المصري أمام واقع جديد، ليختبر مسارات جديدة للتعافي.. فهل ينجح بها؟
- لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري، رفعت سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي بواقع 600 نقطة أساس ليصل إلى 27.25 بالمئة، 28.25 بالمئة و27.75 بالمئة، على الترتيب.
- المركزي المصري قرر كذلك رفع سعر الائتمان والخصم بواقع 600 نقطة أساس ليصل إلى 27.75 بالمئة. وذلك في اجتماع استثنائي للجنة السياسة النقدية.
- تم السماح لسعر صرف الجنيه بالتحرك وفقا لآليات السوق، بعد قرار المركزي المفاجئ.. واخترق الدولار حاجز الـ 50 جنيهاً في البنوك المصرية (حتى عصر الأربعاء)
- كانت الحكومة المصرية قد خفضت قيمة العملة 3 مرات منذ أوائل العام 2022.
- أعلن بنكا الأهلي وبنك مصر، وهما أكبر بنكين حكوميين في البلاد، عن طرح شهادة لمدة ثلاث سنوات بفائدة متناقصة تصل إلى 30 بالمئة، وذلك بعد قرار من البنك المركزي المصري بزيادة معدلات الفائدة بواقع 600 نقطة أساس.
استقرار سعر الصرف
من جانبها، تشير الخبيرة المصرفية، سحر الدماطي، إلى أن قرار البنك المركزي هو قرار إيجابي في سياق "سعر مرن للعملة وليس تعويم"، مؤكدة أنه جاء في التوقيت المناسب؛ لا سيما وبعد أن وفّر البنك المركزي المصري الموارد اللازمة لتغطية الفجوة التمويلية التي حدثت أخيراً.
وتشدد على أن هذه الإجراءات من شأنها المساهمة في:
- استقرار سعر الصرف، وهو أمر مبني على أساس قوي يؤهل الحصول على السعر التوازني بين الطلب والعرض.
- القضاء على السوق السوداء، مما ينعكس على الأسعار خاصة السلع الأساسية في السوق المصري.
- دعم إجراءات مواجهة التضخم خاصة بعد إصدار شهادات الـ 30 بالمئة في بنكي "الأهلي ومصر"، حيث كان الغرض منها توجيه الأموال للادخار بدلاً من الاستهلاك.
- تشجيع المصريبن بالخارج على التوجه للقطاع المصرفي، والتعامل بالسعر الرسمي للعملة، بما يحدث انتعاشه كبيرة في التحويلات.
- الإفراج عن البضائع في السوق من أدوية وأعلاف ومدخلات إنتاج ومواد خام؛ الأمر الذي يُحدث انفراجه كبيرة في السوق المصرية.
وتضيف: هذه الخطوات جاءت لدعم الاستثمار والصناعة، وبالتالي زيادة النمو في الناتج القومي على المدى المتوسط والبعيد، مؤكدة أن التضخم سوف يشهد في الفترة المقبلة وتيرة تنازلية، وبالتالي يمكن للبنك المركزي أن يخفض الفائدة في وقت لاحق.
يأتي ذلك فيما تنتظر الأسواق إعلاناً جديداً من شأنه إضافة معطيات جديدة للمشهد تتحدد بناءً عليه أبرز المسارات المحتملة، فقد صرح مصدر رفيع المستوى -بحسب بيان وصلت موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" نسخة منه، أنه من المقرر الإعلان خلال الساعات المقبلة عن توقيع اتفاق التمويل الجديد بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولى والتى من شأنها تعزيز برنامج الإصلاح الاقتصادى وزيادة تدفق السيولة الأجنبية للسوق المحلية.
وقال البنك المركزى، في بيانه الذي أعلن فيه عن الإجراءات الجديدة إن:
- توحيد سعر الصرف يأتى في إطار حرصه على تحقيق الدور المنوط به بحماية متطلبات التنمية المستدامة والمساهمة في القضاء على تراكم الطلب على النقد الأجنبي في أعقاب إغلاق الفجوة بين سعر صرف السوق الرسمي والموازي.
- الإسراع بعملية التقييد النقدي تأتى بهدف تعجيل وصول التضخم إلى مساره النزولي وضمان انخفاض المعدلات الشهرية للتضخم، والوصول بمعدلات العائد الحقيقية على الجنيه إلى مستويات موجبة.
- التقييد النقدي يمكن أن يؤدى إلى تراجع الائتمان الحقيقي الممنوح للقطاع الخاص على المدى القصير، إلا أن ارتفاع الضغوط التضخمية يشكل خطراً أكبر على استقرار وتنافسية القطاع الخاص. مؤكداً أن تحقيق استقرار الأسعار يخلق مناخاً مشجعاً للاستثمار والنمو المستدام للقطاع الخاص على المدى المتوسط.
الاستثمارات
رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة "أكيومن" لإدارة المحافظ وصناديق الاستثمار، رنا العدوي، تقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:
- القرارات الأخيرة إيجابية اقتصادياً؛ لأسباب كثيرة، خاصة في ضوء مراعاة المشكلة الرئيسية والمتمثلة في التضخم والناتج عن شح السيولة بالعملة الأجنبية، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الصرف وخلق سوق موازية للدولار.
- قرارات المركزي المصري اليوم ورفع أسعار الفائدة بمعدلات جاذبة جداً تسهم في جذب الدولار من الخارج، بحل جذري للأزمة الحالية،ومن أجل استقطاب الشريحة الراغبة في الاستثمار في أدوات الدين أو الأسهم وشريحة الشركات ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي لمصر.
- تحقيق تلك المستهدفات العامة يستغرق فترة وليس فورياً، بداية من عودة استثمارات الدخل الثابت، في ضوء قرارات تستهدف القضاء علي السوق الموازية وزيادة فرص استقطاب الاستثمارات من جديد، ثم يتبعها المضي قدما في الشركات المستهدف بيعها في ضوء رغبة المستثمرين العرب للاستثمار في مصر.
وتأتي قرارات السياسة النقدية المعلنة في إطار حزمة إصلاحات اقتصادية شاملة بالتنسيق مع الحكومة المصرية وبدعم من الشركاء الثنائيين ومتعددي الأطراف، واستعداداً لتنفيذ إجراءات برنامج الإصلاح تم توفير التمويل اللازم لدعم سيولة النقد الأجنبي، بحسب المركزي المصري.
وأكد البنك المركزي على أهمية التنسيق بين السياسات المالية والنقدية للحد من أثر التداعيات الخارجية على الاقتصاد المحلي، الأمر الذي يضع الاقتصاد المصري على مسار مستدام للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، وضمان استدامة الدين، والعمل على بناء الاحتياطيات الدولية.
وتوضح رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة "أكيومن" لإدارة المحافظ وصناديق الاستثمار أن البورصة ستمثل أحد الأوعية القادرة على جذب الاستثمارات في ضوء تلك القرارات خلال المدى القصير.
وتتوقع أن تظهر آثار تلك الإجراءات على نهاية العام ومع جذب السيولة الدولارية ومن ثم خفض معدلات التضخم ، قبل خفض معدلات الفائدة مرة أخرى بشرط ترك سعر الصرف وفقا لآليات العرض والطلب والقضاء على السوق السوداء.
قرارات طال انتظارها
من جانبه، يقول الخبير المصرفي، محمد عبد العال، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن قرارات البنك المركزي هي "قرارات حكومية رشيدة" طال انتظارها، خاصة القرار المرتبط برفع سعر الفائدة 600 نقطة أساس.
ويضيف أن الهدف من تلك القرارات:
مزيد من الإصرار على السياسية التقييدية لاستهداف التضخم حتى دفعه لاتجاه تنازلي بنهاية 2024.
- ارتفاع العائد على الدين العام لتحفيز الاستثمار الأجنبي غير مباشر.
- تحرير سعر الصرف وبما ينعكس على توحيد السعر وهروب وتجفيف السوق الموازية.
- تدفق تحويلات المصريين العاملين بالخارج عبر شرايين الجهاز المصرفي.
- زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر.
- الإفراج عن السلع المتراكمة في الجمارك لزيادة عرض تلك السلع.
ويؤكد أن سعر الفائدة يلعب دورًا هامًا مع تحرير الجنيه المصري لتعديل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، مشدداً على ضرورة الحفاظ على هذا الاستقرار على المدى المتوسط، مع إطار مرن لمواجهة التضخم، والقضاء على الفجوة بين السعر الموازي والرسمي لتوحيد الأسعار .
ويشير إلى امتصاص البنك الأهلي المصري وبنك مصر من خلال شهادات الـ30 بالمئة، السيولة المتاحة للمواطنين خاصة في الكتلة النقدية لتخفيف الضغط من جانب الطلب على السلع، إلى جانب تعويض القطاع العائلي عن ارتفاع التضخم في المرحلة المؤقتة، والتي قد تساعد على المدى القصير في ارتفاع الأسعار نتيجة تحرك سعر الصرف.
ويعتقد عبد العال بأن قرار البنك المركزي هو "التعويم الأخير" للجنيه المصري، خاصة بعد توفير دفعة مالية قوية من النقد الأجنبي، وهذا ما حدث خلال صفقة رأس الحكمة بتوفير 35 مليار دولار.
وفيما يخص السوق الموازية، فكان المركزي قد ذكر في بيانه أن القضاء على السوق الموازية للصرف الأجنبي يؤدى إلى كبح جماح التضخم عقب الانحسار التدريجي للضغوط التضخمية المقترنة بتوحيد سعر الصرف، لافتا إلى السعى لإعادة تقييم معدلات التضخم المستهدفة فى ضوء هذه القرارات إلى جانب المخاطر المتعلقة التوترات الجيوسياسية الإقليمية، والتقلبات في أسواق السلع الأساسية العالمية والأوضاع المالية العالمية.
فرص وتحديات
في المقابل، يقول خبير أسواق المال عضو الاتحاد الدولي للمحللين، ريمون نبيل، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن قرار البنك المركزي في اجتماعه الاستثنائي برفع سعر الفائدة 600 نقطة أساس خالف التوقعات التي كانت تشير إلى تحريك من 300 إلى 400 نقطة أساس (..) وبما يعد قفزة في تاريخ مصر لم تحدث من قبل.
ويعتقد بأن هذه القفزة الجديدة من شأنها الضغط على الاستثمار، إلى جانب خلق حالة من الركود في الإقراض والتمويل الداخلي للمستثمرين، مما يحدث تذبذباً وركوداً في حركة الإقراض في البنوك إذا لم يحدث جديد في الفترة المقبلة.
ويضيف: "كانت التحرير متوقعاً منذ 3 أشهر، وبعد توقيع صفقة رأس الحكمة صار أقرب من أي وقت مضى بعد توافر السيولة، وفي ظل عمل الدولة على الإفراج عن البضائع في الموانئ.. كما كان التحرير من بين اشتراطات صندوق النقد الدولي، لتزويد التمويل الدولاري لمصر".
وفيما يخص تأثير تلك القرارات على السوق الموازية في مصر، يستطرد: "القضاء على السوق السوداء أمر مرتبط بتوفير سيولة دولارية في البنوك المصرية للصناعة والتجار والمستثمرين، وهذا ما سيظهر في الفترة المقبلة.. إذا توفرت السيولة سنعود لما كنا عليه في العام 2017، أما إذا لم تتوفر السيولة فستحدث فجوة سعرية كبيرة وبما يخلق فرصة قوية لعودة السوق السوداء من جديد".
ويتوقع نبيل في هذا السياق مزيداً من الصفقات الاستثمارية الجديدة على غرار صفقة رأس الحكمة خلال الربع الثاني من العام 2024 ، وذلك في قطاع العقارات ومشروعات البتروكيمياويات.
وكانت مصر والإمارات وقعتا اتفاقية صفقة استثمارية ضخمة لتطوير مدينة رأس الحكمة الواقعة في الساحل الشمالي الغربي للبلاد، والتي من المتوقع أن تجذب استثمارات تصل إلى 150 مليار دولار على مدار عمر المشروع.
تحويلات المصريين في الخارج
وفي السياق، يوضح مدير مركز رؤية للدراسات الاقتصادية، بلال شعيب، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن الدولة المصرية تستهدف جذب الاستثمار الأجنبي وتوافر السيولة الدولارية، وهو ما دفعها لأن تتخذ إجراءات عاجلة من ضمنها قرار لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزي في جلسة طارئة، الأربعاء، برفع سعر الفائدة واتخاذ قرار تحرير سعر الصرف وفقا لآليات العرض والطلب.
ويتوقع أن يكون للقرار مردود إيجابي خاصة وأن الفترة الماضية كانت تشهد حالة دولرة "في أبشع صورها"، يتم فيها دخول وخروج النقد الأجنبي بطرق غير قانونية أو شرعية خارج الجهاز المصرفي، مشيرًا إلى أن تحويلات المصريين بالخارج تقريبًا تصل إلى 32 مليار دولار سنوياً لكنها لا تدخل الدولة بالكامل.
وذكر أن سعر الدولار بالجهاز المصرفي كان ثابتاً دون الـ 31 جنيهاً، في حين كان يتم احتسابه في السوق الموازية وتقييمه عند 65 جنيهاً (وصل 70 جنيهاً في بعض الأيام)، بالتالي كانت تحويلات المصريين من الخارج تتسرب خارج دائرة الجهاز المصرفي، نظرًا لأن سعرها أقل من السوق الموازية التي كانت تضع سعرًا وفقًا لآلية عرض وطلب خاصة بها، لكن اليوم أصبحت السوق الرسمية وغير الرسمية بنفس السعر ولم يصبح هناك أكثر من سعر للدولار.
ويتوقع أن تتنامى حصيلة النقد الأجنبي من خلال تحويلات المصريين من الخارج خلال أيام، خاصة مع طرح شهادات جديدة بفائدة قيمتها 30 بالمئة، لذا لن تكن هناك دوافع لأن يتم تحويل الأموال خارج إطار الجهاز المصرفي ، الذي يعد بديلًا أكثر أمانًا.
ويعدد مدير مركز رؤية للدراسات الاقتصادية، عوائد عودة تحويلات المصريين بالخارج إلى الجهاز المصرفي، على الاقتصاد المصري مستقبلًا، ومنها:
- تعزيز حصيلة النقد الأجنبي في الدولة، بعد فترة من شح السيولة الدولارية ناتج عن انخفاض تحويلات المصريين من الخارج.
- حصيلة النقد الأجنبي التي سيتم توفيرها للدولة تستطيع من خلالها الإنفاق على مستلزمات الإنتاج والتوسعات الاستثمارية للشركات والخطط التوسعية لمشاريع الدولة ومعدلات التنمية.
- ستتمكن الدولة من سداد المستحقات التي عليها والأعباء التمويلية الدولية، وبالتالي التصنيف الائتماني للدولة يصبح أفضل.
- تعزيز الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزي المصري وتوفير سيولة دولارية للدولة تمكنها من القضاء على الخلل في الميزان التجاري، فالدولة المصرية تستورد بحوالي 90 مليار دولار وتصدر ما يقرب من 25 مليار دولار، ما يعني أن هناك عجزاً بما يقرب من 45 مليار دولار.
- ميزان المدفوعات سوف يشهد تدفقات من مصادر أخرى من ضمنها التحويلات من الخارج لسد العجز ودعم الصادرات من خلال توفير مستلزمات الإنتاج اللازمة للعملية الإنتاجية، ما يساعد على توفير السلع وإيقاف مؤشر التضخم.