يبدو أن الانخفاض المفاجئ بنسبة 3.2 بالمئة في مستوى مبيعات التجزئة في المملكة المتحدة خلال شهر ديسمبر يشير إلى أن أزمة تكلفة المعيشة مستمرة في الإضرار بتمويل الأسر على الرغم من ارتفاع الأجور الذي أعطى عديداً من المستهلكين المزيد من القوة الشرائية.
سيكون ركودًا فنيًا معتدلًا إذا ثبت أن قراءات الناتج المحلي الإجمالي للربعين الثالث والرابع من العام الماضي سلبية عندما يتم إصدار أحدث البيانات الشهر المقبل، بحسب صحيفة الغارديان.
كان الانكماش الذي أبلغ عنه مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني غير متوقع بعد أن أبلغت معظم سلاسل المتاجر الكبرى عن موسم احتفالي صحي، وقال عديد من تجار التجزئة الكبار الشيء نفسه.
توقع المحللون أن تظل المبيعات ثابتة إلى حد كبير بعد زيادة بنسبة 1.4 بالمئة في نوفمبر والتي كانت مرتبطة بالجمعة السوداء وتوقعوا ارتفاعًا طفيفًا في المتسوقين الذين يبحثون عن صفقات ما قبل عيد الميلاد.
والآن يبدو أن مبيعات نوفمبر قد سُلبت ببساطة من ديسمبر، وأن الأسعار المرتفعة التي دفعت التضخم إلى الارتفاع بأكثر من 16 بالمئة على مدى عامين، كان لها أثرها على الاقتصاد.
وانخفضت مبيعات المواد الغذائية، إلى جانب مبيعات الملابس والوقود.. "كان الأمر كما لو أن الجميع قد بقيوا في منازلهم ولم يقودوا سياراتهم إلى أي مكان في ديسمبر، أو على الأقل ليس بالقدر الذي كانوا عليه منذ عدة سنوات"، وفق الغارديان.
مشكلات عديدة
وفي تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، قال مدير مركز معلومات ودراسات الطاقة في لندن، المحلل الاقتصادي مصطفى بزركان، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الاقتصاد البريطاني يعاني من مشكلات عديدة منذ جائحة كورونا وتأثيراتها وتداعياتها الشديدة، إذا ما ضفنا إلى ذلك تأثيرات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يصبح الأمر أكثر تعقيدًا.
وأضاف برزكان أن هذه الأوضاع أسهمت في تعميق هشاشة الاقتصاد البريطاني الذي دخل مرحلة ركود غير معلن خلال العام الماضي لتصبح ملامح هذه المرحلة كما يلي:
- تراجع قطاع التجزئة بسبب زيادة التكاليف التي رافقتها زيادات في أسعار الفائدة التي وضعت أعباء إضافية على الشركات.
- أسهمت هذه الأوضاع في خلق حالة من الركود التضخمي الذي شكل تأثيرًا كبيرًا على تراجع الإنفاق العام.
- ارتفعت المديونية العامة إلى مستويات قياسية.
- تقلص أداء قطاع الخدمات وارتفعت البطالة.
- التخبط السياسي الذي عانى منه حزب المحافظين الحاكم أثر بشكل واضح.
وذكر برزكان أن قطاع التجزئة تراجع أداؤه إلى أدنى مستوى منذ سنوات بسبب انكماش القدرة الشرائية للمواطن البريطاني وكان ذلك واضحاً خلال وبعد فترة احتفالات أعياد الميلاد في ديسمبر الماضي.
وأكد برزكان أنه بات من الواضح أن وعود بنك إنكلترا بخفض الفائدة بالتوازي مع تباطؤ مستويات التضخم لن تتحق قريبا، لافتًا إلى أن بريطانيا ستبقى في انتظار تفاصيل إعلان الميزانية خلال شهر مارس المقبل وبعدها قد يعلن رئيس الوزراء إجراء انتخابات عامة في فصل الخريف القادم.
ونقل تقرير الغارديان عن الخبير الاقتصادي في شركة كابيتال إيكونوميكس الاستشارية، أليكس كير، قوله إن الأرقام الصادرة الجمعة ستخصم حوالي 0.15 نقطة مئوية من النمو الاقتصادي في ديسمبر، "مما يزيد من فرص أن يكون الاقتصاد قد أنهى عام 2023 في أخف حالات الركود المعتدل.
قال مكتب الإحصاءات الوطنية في بريطانيا إن الانخفاض السنوي بنسبة 3.4 بالمئة في حجم المبيعات في عام 2022 تفاقم بسبب انخفاض آخر بنسبة 2.8 بالمئة في عام 2023. وهذا يضع حجم المبيعات السنوية عند أدنى مستوى له منذ ما قبل الوباء.
وقال كير: "بالنظر إلى المستقبل، قد يؤدي بعض التأثير الناجم عن ارتفاع أسعار الفائدة على حاملي الرهن العقاري الحاليين إلى انخفاض متواضع آخر في الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي في الربع الأول من العام 2024.
وأضاف: "لكن تخفيضات أسعار الفائدة اعتبارًا من يونيو وزيادة الدعم الحقيقي لدخل الأسر من انخفاض التضخم سيدعم انتعاش الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي في النصف الثاني من هذا العام."
ومن شأن هذه الأرقام أن تؤدي إلى زيادة الضغط على هانت لمعالجة ارتفاع معدلات الأعمال، والتي تم تخفيضها خلال جائحة فيروس كورونا ولكنها سترتفع مرة أخرى في أبريل.
دلالة هبوط مبيعات التجزئة
من جانبه، علق مدير المركز العالمي للدراسات التنموية، صادق الركابي في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" : "يشير تراجع مبيعات التجزئة إلى الضغط الكبير على المستهلكين، حيث قلل البريطانيون من قائمة السلع المشتراة ووضعوا أولوياتهم بدقة جعلتهم أكثر انتقائية، وقد يفسر هذا الأمر الاختلاف بين أداء محلات السوبرماركت و محلات بيع الملابس على سبيل المثال".
وأضاف الركابي سيكون من تداعيات هذه الأوضاع:
- التأثير بشكل كبير على أداء الاقتصاد البريطاني، حيث أنه سيجعل بعض القطاعات عاجزة عن أداء دورها و يولد خللاً في التوازن.
- التأثير على قيمة الجنيه الاسترليني الذي بدأ يشهد موجات بيع قد تؤدي لرفع كلفة الاستيراد المزيد من الضغوط التضخمية.
وأشار إلى أن الاقتصاد البريطاني وقع في الربع الأخير من العام الماضي في شباك الركود، موضحًا أن توقعات النمو لهذا العام أفضل، وتشير إلى أنه سيكون أكثر مرونة و مقاومة في الأشهر المقبلة.
وأوضح أنه في الوقت الذي ارتفعت فيه التوقعات بتخفيض أسعار الفائدة للخلاص من شبح الركود سوف تشكل هذه النتائج هاجسًا أمام بنك إنكلترا لتجنيب الاقتصاد البريطاني التعرض لأزمة تتسبب في العودة للمربع الأول.
واختتم حديثه قائلاً: "خفض أسعار الفائدة يجب أن يكون حذراً جداً؛ لأنه من جهة سينشط حركة السوق ويخفض من كلفة الاقتراض ويزيد من حجم الإنفاق لكنه من جهة أخرى قد يرفع من التضخم الذي يعاني منه الاقتصاد البريطاني و يحاول بنك انجلترا خفضه".
وقال اتحاد التجزئة البريطاني، الذي يمثل معظم سلاسل المتاجر الكبيرة، في وقت سابق من هذا الأسبوع، إن تجار التجزئة سيواجهون عددًا من التكاليف الإضافية هذا العام، والتي يخشى أن تؤدي إلى زيادة المستوى المتزايد بالفعل لحالات الإفلاس.
ومما ينذر بالسوء أنه قال: "مع إجراء انتخابات في الأشهر الـ 12 المقبلة، حان الوقت لأن تفهم الأحزاب السياسية قيمة تجارة التجزئة بالنسبة للاقتصاد الأوسع، وتضع خطة واضحة ومتماسكة لتجارة التجزئة في بياناتها الرسمية".
ركود اقتصادي
وأفاد الخبير الاقتصادي، نهاد إسماعيل، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، بأن هناك مخاوف حاليًا من أن ينزلق اقتصاد بريطانيا لحالة ركود اقتصادي.
وأضاف: "حتى الآن تجنبت بريطانيا الركود بشكل عملي رغم ارتفاع التضخم من 3.9 بالمئة في نوفمبر 2023 الى 4 بالمئة في ديسمبر 2023، الرقم المستهدف للتضخم من قبل بنك إنكلترا 2 بالمئة، ولكن في نفس الوقت النمو الاقتصادي يبقى ضعيفًا والذي قدر بـ 0.3 بالمئة بين أكتوبر ونوفمبر".
وأكد إسماعيل أنه لكي تدخل بريطانيا مرحلة ركود حقيقي بجب أن يتقلص حجم الاقتصاد لربعين متتالين من العام، لكن هذا لم يحدث، ولكن تراجع مبيعات قطاعات التجزئة بنسبة 3.2 بالمئة على أساس شهري في ديسمبر يشير إلى أن الاقتصاد بطيء ولكنه لم يدخل مرحلة ركود.
وذكر أن تراجع إنفاق المستهلك في شهر ديسمبر 2023 يعود لأسباب تتعلق بغلاء المعيشة ما أجبر المستهلك على الاقتصاد في نفقات أعياد الميلاد وتقليل شراء الهدايا والملابس، موضحًا أن الهبوط البالغ 3.2% يعتبر أكبر انخفاض منذ يناير 2021 أثناء فترة القيود لمكافحة وباء الكوفيد.
وأشار إسماعيل إلى أن هناك تفاؤلا في أوساط الحكومة بأن الاقتصاد سيتحسن في الربيع مع وعود بتخفيض الضرائب على العاملين والمتقاعدين مما سينشط الحركة الاقتصادية، مضيفًا: "يمكن القول أن الركود الاقتصادي مستبعد رغم ضعف النمو الاقتصادي وهبوط مبيعات التجزئة خلال عام 2023 لأدنى المستويات منذ 2018".
ولفت إلى وجود تفاوت في هبوط قطاعات التجزئة حسب مكتب الاحصاءات الوطني البريطاني ، ضاربًا المثل بمحلات بيع الأغذية وسلاسل السوبر ماركت التي شهدت ارتفاعًا 1.1 بالمئة في نوفمبر وهبوط 3.1 بالمئة في ديسمبر، في حين أن المتاجر التي تبيع الهدايا واللوازم المنزلية غير الغذائية شهدت تراجع 4.5 بالمئة في الشهر الأخير من عام 2023.