فرضت معدلات التضخم الآخذة في التباطؤ في الشهور الأخيرة من العام الماضي 2023 حالة من التفاؤل على توقعات الأسواق بشأن بلوغ المستويات المستهدفة بخطى حثيثة وثابتة، وهو ما عبّرت عنه قرارات البنوك المركزية الكبرى فيما يخص تهدئة وتيرة رفع الفائدة وفتح الباب أمام خفض توقعات خفض الفائدة في العام الجديد 2024.

وبينما تقطع عديد من الاقتصادات الكبرى الشوط الأخير في معركة التضخم، بعد سياسات نقدية ومالية يصفها الخبراء بالناجحة إلى حد كبير منذ العام 2022، إلا أن ثمة طُلقات تحذيرية تدوي في الأجواء، وتعزز بدورها من حالة عدم اليقين الاقتصادي، لتعيد شبح التضخم إلى الواجهة؛ من بينها على سبيل المثال الاضطرابات في البحر الأحمر.

أخبار ذات صلة

مؤسسات دولية : اقتصاد أميركا اللاتينية يواجه تحديات في 2024
هجمات البحر الأحمر تلقي بظلالها على اقتصاد أوروبا

وبينما تختلف المعطيات في الأسواق كافة، إلا أن مخاوف مشتركة بشأن تبعات تلك الأزمة، علاوة على أزمات أخرى –داخلية وخارجية- من شأنها التلويح بارتدادة "أصعب" للضغوط التضخمية من جديد.

الولايات المتحدة، وباعتبارها الاقتصاد الأكبر في العالم، ليست في منأى عن تلك التفاعلات؛ وهو ما يتحدث بشأنه بشكل مفصل الخبير الاقتصادي العالمي، محمد العريان، في مقال له في صحيفة "فاينانشال تايمز البريطانية"، قال في بدايته، إنه وعلى الرغم من الانخفاض الحاد في معدل التضخم في الولايات المتحدة الأميركية خلال العام الماضي، لا يزال إصدار البيانات الأميركية الشهرية حول حركة الأسعار يحظى باهتمام كبير، ويمتد إلى ما هو أبعد من الاقتصاديين والمشاركين في السوق؛ فهو يشكل وجهات النظر حول آفاق النمو الاقتصادي وسياسة البنك المركزي وأداء السوق.

ويلفت إلى البيانات الاقتصادية الصادرة أخيراً في الولايات المتحدة، والتي تُظهر ارتفاع معدل التضخم الرئيسي من 3.1 بالمئة إلى 3.4 بالمئة، متجاوزاً التوقعات المتفق عليها البالغة 3.2 بالمئة.

وبعد أن وصل هذا المعدل إلى ذروته بنسبة 9 بالمئة في العام 2022، عرفت المعدلات انخفاضاً عاماً في تضخم أسعار المستهلكين في جميع أنحاء العالم المتقدم بعد ذلك.

ومن المثير للدهشة أن هذا الانكماش لم يعرقل النمو أو تشغيل العمالة؛ فقد واصل الاقتصاد الأميركي تفوقه على المستوى الدولي، حيث نما بنحو 5 بالمئة في الربع الثالث من العام 2023، ووفقاً للتوقعات المتفق عليها، أكثر من 2 بالمئة في الربع الأخير من العام.

وفي الوقت نفسه، ظلت البطالة عند مستوى منخفض يبلغ 3.7 بالمئة، مع خلق فرص عمل شهرية مثيرة للإعجاب وانخفاض مطالبات البطالة الأسبوعية.

أخبار ذات صلة

الأمم المتحدة تتوقع تعافي السياحة العالمية بالكامل في 2024
ما الذي حققه الاقتصاد البرازيلي في عهد "لولا" حتى الآن؟

ويشير العريان في مقاله إلى أن:

  • هذا المزيج الفريد يرسي التوقعات المتفق عليها بشأن الهبوط الناعم للغاية للاقتصاد. وهذا هو السبب الرئيس وراء تسعير الأسواق لتخفيضات أسعار الفائدة (ابتداء من مارس) بمقدار ضعف 0.75 نقطة مئوية التي أشار إليها مسؤولو بنك الاحتياطي الفيدرالي، ويتوقع المحللون أن تستفيد الأسواق من الارتفاع المثير للإعجاب في العام الماضي.
  • لقد منح الأمل لإدارة بايدن في أن الناخبين سيضعون وراءهم صدمة التضخم غير المتوقعة، وبدلاً من ذلك، سيركزون أكثر على مكاسب الأجور الحقيقية الأخيرة، وخلق فرص العمل القوية، والتدابير التشريعية التي تدعم النمو والإنتاجية في المستقبل.
  • ومع ذلك، كان هناك ما يبرر الحذر بالفعل في "الشوط الأخير" من معركة التضخم قبل صدور البيانات يوم الخميس الماضي، المشار إليها. وهناك المزيد من الأسباب الآن بالنظر إلى الأرقام والتطورات الجيوسياسية الأخيرة، فقبل صدور هذه البيانات، تطلب الوصول إلى هدف التضخم الذي حدده بنك الاحتياطي الفيدرالي بنسبة 2 بالمئة بسرعة تباطؤاً متسارعاً في قطاع الخدمات لمرافقة التباطؤ المستمر في نمو الأسعار (وفي بعض الحالات الانكماش الصريح) للسلع.
  • بينما انخفض التضخم الأساسي من 4.0 بالمئة إلى 3.9 بالمئة خلال الشهر، كان هذا أعلى من توقعات السوق المتفق عليها البالغة 3.8 بالمئة. وفي الوقت نفسه، فإن البيانات لا تعكس بعد ضغوط التكلفة الموجودة بالفعل.
  • سيؤثر التعطيل الحالي للملاحة في البحر الأحمر على التضخم بشكل مباشر، من خلال زيادة أسعار المدخلات والسلع النهائية، وبشكل غير مباشر عن طريق تأخير توافر السلع. وسيحتاج الاقتصاد أيضًا إلى استيعاب تكاليف العمالة المرتفعة.
  • تعتمد العواقب المترتبة على النمو إلى حد كبير على ما إذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي على استعداد لتحمل فترة أطول من التضخم فوق هدفه البالغ 2 بالمئة.
  • لا يوجد خطر كبير على الاستقرار الاقتصادي والمالي في تحقيق هدف تضخم ضمني أقرب إلى 3 بالمئة في الوقت الحالي.

أخبار ذات صلة

المؤسسات المالية.. تهديدات متزايدة من الهجمات السيبرانية
موديز: نمو القطاع غير النفطي الخليجي سيعوض تراجع إنتاج النفط

الأداء الاقتصادي الأميركي

ومن الناحية السياسية، يوضح العريان أن إدارة بايدن لا تستطيع الاعتماد ببساطة على انخفاض التضخم لتخفيف مخاوف الناخبين بشأن إدارتها الاقتصادية.

ويتعين عليها أن تعمل على توصيل الأداء الاقتصادي الاستثنائي في الولايات المتحدة بشكل أكثر فعالية مقارنة بالاقتصادات المتقدمة الأخرى، فضلا عن الترجمة بلغة أكثر سهولة كيف يعمل نهجها السياسي على تعزيز النمو الأكثر شمولا واستدامة في المستقبل.

وأخيراً، وبحسب العريان، يتعين على الأسواق المالية أن تدرك أن توجيهات بنك الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة بنسبة 0.75 نقطة مئوية بدءاً من وقت لاحق من هذا العام أكثر منطقية من توقعات السوق الحالية الأكثر تشاؤماً إلى حد كبير.

وفيما يتعلق بالاستراتيجية بالنسبة للمستثمرين، فإن هذا يُترجم إلى تركيز أكبر على اختيار الأسماء الفردية في الاستثمارات (بدلاً من الاستثمار السلبي في المؤشرات)، والهيكلة السليمة والميزانيات العمومية القوية.

أخبار ذات صلة

بعد تباطئه منذ الوباء.. هل تستعيد الصين مجد 3 عقود من النمو؟
الرئيس الأرجنتيني يهاجم الاشتراكية ويعتبرها "خطرا" على الغرب

مهمة صعبة

ويرى العريان أن العودة بسرعة إلى نسبة 2 بالمئة لن تكون بالمهمة السهلة على الإطلاق بالنسبة للاقتصاد الأميركي، وخاصة في ضوء الأخطاء الأولية التي ارتكبها بنك الاحتياطي الفيدرالي في التحليل ورد الفعل السياسي.

  • إن البيانات الأخيرة تخدم كإنذار مبكر على نحو مدهش للطريق الطويل والمتعرج الذي ينتظرنا في الميل الأخير من معركة التضخم.
  • ما قد يجعل الأمور أكثر طمأنينة هذا العام – بالنسبة للاقتصاد والأسواق وإدارة بايدن – هو مجموعة من الإجراءات المحلية والدولية التي تعمل على تعزيز مرونة العرض التي تمكن من تحقيق "التضخم المثالي" الذي كان كثيرون يأملون فيه.

المشهد الاقتصادي العالمي

وبشكل عام، فيما يخص المشهد الاقتصادي العالمي، يقول الباحث في الشؤون الاقتصادية، مازن أرشيد، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إنه لتقييم الوضع الاقتصادي العالمي بشكل دقيق، من المهم النظر في مجموعة متنوعة من العوامل، على النحو التالي:

  • التطورات الجيوسياسية.
  • السياسات النقدية والمالية.
  • التغيرات في الأسواق العالمية.

هذه العوامل مجتمعة ستحدد ما إذا كان الاقتصاد العالمي سيتجه نحو هبوط ناعم أو سيواجه سيناريوهات أكثر تحديًا.

ويضيف أرشيد: "في تحليل الوضع الاقتصادي العالمي للعام 2024، يُلاحظ أن هناك تباطؤًا متوقعًا في النمو الاقتصادي العالمي مقارنة بالأعوام السابقة".

ووفقًا لتوقعات البنك الدولي، نما الاقتصاد الأميركي بنسبة 2.5 بالمئة في عام 2023، ومن المتوقع أن ينخفض النمو إلى 1.6 بالمئة في عام 2024.

أخبار ذات صلة

اقتصاد الصين ينمو بأقل من التوقعات بالربع الأخير 2023
في دافوس.. حمى الذكاء الاصطناعي تزيح العملات المشفرة جانباً

في أوروبا، يظهر الوضع أكثر قتامة، حيث يُتوقع نمو الاقتصاد بنسبة 0.7 بالمئة فقط في العام 2024، وهو انخفاض حاد متأثرًا بارتفاع أسعار الطاقة وظروف الائتمان المشددة.

ويتابع: "بالنسبة للصين، فمن المتوقع أن يتباطأ نموها الاقتصادي إلى 4.5 بالمئة في العام 2024، وهو أبطأ معدل نمو لها في أكثر من ثلاثة عقود باستثناء السنوات المتأثرة بالجائحة. يُعزى هذا التباطؤ إلى عوامل مثل تقلص الإنفاق الاستهلاكي والمشاكل المستمرة في قطاع العقارات، بالإضافة إلى التحديات الديموغرافية وارتفاع الديون".

ويستطرد أرشيد: "على صعيد الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، يُتوقع أن يتباطأ النمو إلى 3.9 بالمئة في العام 2024، مقارنة بـ4.0 بالمئة في العام 2023".

هذا النمو غير كافٍ لرفع السكان المتزايدين من مستويات الفقر، حيث من المتوقع أن يظل سكان حوالي ربع الدول النامية و40 بالمئة من الدول ذات الدخل المنخفض أفقر مما كانوا عليه في عام 2019 قبل الجائحة.

  • من العوامل المؤثرة أيضاً في الاقتصاد العالمي هي سياسات الفائدة؛ فاستمرار بقاء أسعار الفائدة مرتفعة يمكن أن يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي العالمي، بحسب أرشيد.
  • الفائدة المرتفعة تجعل التمويل أكثر تكلفة للشركات والأفراد، ما قد يؤدي إلى تقليص الإنفاق والاستثمار.
  • يُمكن أن يكون لهذا أثر سلبي خاصة في الاقتصادات التي تعتمد بشكل كبير على الاقتراض والتمويل.

ويُكمل: "يجب النظر أيضًا في الدين العالمي وعلاقته بالناتج المحلي الإجمالي العالمي.. الزيادة المتكررة في المديونية العالمية يمكن أن تشكل تحدياً، خاصة إذا استمرت نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الارتفاع حيث نسبة الدين العالمي إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي الى حوالي 349 بالمئة وذلك حتى منتصف عام 2022، وفقًا لتقديرات معهد التمويل الدولي".

ويوضح أرشيد أن ذلك يعني أن مجموع الديون التي تدين بها الحكومات العالمية والأسر والشركات المالية وغير المالية بلغت حوالي 300 تريليون دولار، وهو ما يمثل نسبة كبيرة مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويشير هذا إلى مستوى قياسي من الديون ويعكس زيادة بنسبة 26 بالمئة مقارنة بمستويات ما قبل الأزمة المالية العالمية في العام 2007، حين كانت النسبة 278 بالمئة.

وهذا يعرض الاقتصادات لمخاطر أكبر في حالة تباطؤ النمو أو الركود.

أخبار ذات صلة

لماذا تثير توترات البحر الأحمر المخاوف بشأن النفط والتضخم؟
ما تداعيات التوتر في البحر الأحمر على الاقتصاد العالمي؟

الهبوط الناعم

ومن جانبه، يؤكد المدير التنفيذي في شركة VI Markets أحمد معطي، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن:

  • تصاعد التوترات الجيوسياسية في العالم خلال 2024 يعتبر أمرًا غير مُبشر، وقد ينتج عنه اختفاء مفهوم الهبوط الناعم للاقتصاد العالمي والتحول إلى الركود التضخمي حال استمرار تصاعد الأزمة في البحر الأحمر.
  • خلال الأيام الماضية هناك عديد من الشركات وعلى رأسها شركات السيارات كـ "تسلا" و"فولفو" و"سوزوكي" أعلنوا توقف عمل مصانعهم في أوروبا ونقل السيارات عبر البحر الأحمر، حتى تتضح الرؤيا بالنسبة لهم.
  • إذا ما أضفنا إلى ذلك إعلان بعض شركات الطاقة وتحديدًا المنتجة للغاز بعد نقلها منتجاتها عبر البحر الأحمر في ظل التوترات المندلعة بهذه البقعة.
  • لجوء بعض الشركات إلى طرق بديلة للنقل حول أفريقيا سينتج عنه إطالة مدة نقل المنتجات وارتفاع تكلفة التأمين وبالتالي سينتج عن كل هذه العوامل خفض المعروض وارتفاع الأسعار وأيضًا معدلات البطالة.
  • يقود ذلك العالم بسرعة إلى الركود التضخمي وليس الهبوط الناعم.

ويؤكد معطي أنه مع استمرار الأوضاع كما هي لن تصبح السياسات النقدية ممثلة في رفع أو خفض الفائدة ذات جدوى، لأن الوضع تحول من اقتصادي إلى سياسي وأمني.