قدم اقتصاد أميركا في عام 2023 درساً في التواضع للمحللين، ففي نهاية عام 2022، كانت معظم توقعات خبراء الاقتصاد، تشير إلى أن اقتصاد الولايات المتحدة سيكون أمام خيارين خلال 2023، هما النمو البطيء في أحسن الأحوال، والركود في أسوأ الأحوال، حيث اعتمد هؤلاء في تنبؤاتهم على المنطق الذي يقول إن التغلب على التضخم لا بدّ أن يكون مؤلماً.
ولكن ما حصل خلال 2023 فاجأ الجميع على نطاق واسع، حيث أظهر الاقتصاد الأميركي مرونة وقوة عالية، وكان تأثير ما قام به البنك الاحتياطي الفيدرالي والبيت الأبيض مبهراً، في بيئة سيطرت عليها المخاوف من التضخم، وأسعار الفائدة المرتفعة، لتكون النتيجة توسع الاقتصاد ونموه، بمعدل 2.2 بالمئة و2.1 بالمئة و4.9 بالمئة على التوالي خلال الأرباع الثلاثة الأولى من 2023، في ظل ارتفاع أسعار الفائدة إلى مستويات تتراوح بين نطاق 5.25 بالمئة و5.50 بالمئة وهي معدلات لم تشهدها البلاد منذ أوائل عام 2001.
رحلة محاربة التضخم
وكان الاحتياطي الفيدرالي الأميركي قد بدأ رحلة رفع أسعار الفائدة لمحاربة التضخم في مارس 2022، ونجح بإبطائه إلى مستويات 3.1 بالمئة اعتباراً من نوفمبر 2023 من 9.1 بالمئة في يونيو 2022، حيث واصل الاقتصاد الأميركي الاستفادة من قوة سوق العمل التي سجلت معدلات بطالة منخفضة نوعاً ما، مع بلوغها مستويات 3.7 بالمئة في نوفمبر 2023.
وهذا التحول في مجريات الأمور بالنسبة للاقتصاد الأميركي خلال عام 2023، كان بدعم من الإنفاق الاستهلاكي المتسارع، والزيادات القوية في الاستثمار في المخزون الخاص، والصادرات، والإنفاق الحكومي، والاستثمارات الثابتة السكنية وغير السكنية، إضافة إلى ظهور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي التي لعبت دوراً كبيراً في تحفيز الأسواق.
يلين توبخ المحللين
المفاجأة التي حققها الاقتصاد الأميركي خلال 2023، دفعت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، للتخلي عن رصانتها المعهودة، وتوجيه توبيخ مباشر للاقتصاديين، الذين قالوا إنه لا توجد طريقة لعودة التضخم إلى طبيعته، دون أن ينطوي ذلك على فترة من البطالة المرتفعة، فخلال حديث لصحيفة وول ستريت جورنال الشهر الماضي قالت يلين: "قبل عام، اعتقد العديد من الاقتصاديين أن الركود أمر لا مفر منه، وأن انخفاض التضخم سيتطلب تسريح العمال على نطاق واسع، ولكن هؤلاء أصبحوا الآن "يأكلون كلماتهم" فأنا لم أشعر قط بوجود أساس فكري متين لمثل تلك التوقعات".
من المبكر إعلان النصر
ورغم أن تحقيق الاقتصاد الأميركي لـ "هبوط ناعم" خلال 2023، أقنع الكثير من المحللين بضرورة التخلي عن تشاؤمهم بالنسبة لتوقعات عام 2024 التي باتت تتسم بالإيجابية، فإنه وحتى مع ترسيخ التوقعات المتفائلة ونظراً لمدى الخطأ الذي وقع العام الماضي، فإنه ينبغي على الجميع أن يكونوا مستعدين لأي مخاطر محتملة قد يواجهها الاقتصاد الأميركي خلال العام الجديد، فصحيح أن الاقتصاد نجا من الركود، ولكنه لم يخرج من الأزمة بعد، وهذا ما دفع برئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول إلى القول إنه "من السابق لأوانه إعلان النصر، وهناك بالتأكيد مخاطر يواجهها الاقتصاد".
ويرى بنك "ويلز فارغو" Wells Fargo في تقديراته الخاصة لعام 2024، أن التوقعات الاقتصادية للولايات المتحدة خلال العام الجديد بعيدة كل البعد عن أن تكون "مبهرة"، ولكنها لن تتطور لكي تصبح عاصفة اقتصادية كاملة، حيث من المرجح أن تهيمن السحب العاصفة على آفاق الاقتصاد في المستقبل المنظور.
الصراع مع الصين
ومن المخاطر التي تتصدر اهتمامات الاقتصاديين دائماً قضية الصراع بين أكبر اقتصادين في العالم، فالمحللون قلقون من الطريقة التي ستدير بها الولايات المتحدة علاقاتها مع الصين في 2024، بدءاً من موضوع التجارة مروراً بموضوع تايوان وصولاً إلى موضوع التكنولوجيا والرقائق، فهذه المواضيع الثلاثة ستظل لها أثار، ليس على الاقتصاد الأميركي فحسب، بل على الاقتصاد العالمي بأكمله.
الذكاء الاصطناعي التوليدي
استحوذ الذكاء الاصطناعي التوليدي على اهتمامات العالم في 2023، وهذه التكنولوجيا الجديدة ستظل الاتجاه الضخم الأساسي للاقتصاد ألأميركي في 2024، خصوصاً أن البلاد تقود دول العالم في تطوير هذه التكنولوجيا.
والسؤال الأبرز الذي ستواجهه أميركا في 2024 والذي تنتظر الصناعات الحصول على إجابة عنه هو.. هل سيؤدي الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى عدد قليل جداً من العمال في المستقبل أم إلى عدد قليل جداً من الوظائف؟ وما هي انعكاسات ذلك على الاقتصاد الأميركي؟
فصحيح أن انتشار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن يساعد في نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي على مدى العقد المقبل، ولكن إمكانات النمو هذه لا تأتي دون مخاطر.
المجهول بعد الوباء
يقول الاقتصاديون إن أحدى أكبر المخاطر الاقتصادية التي تلوح في الأفق، هي المجهول وعدم اليقين بحد ذاته، فبعد تعافي الاقتصاد الأميركي من جائحة كوفيد-19، قد يكون من الصعب ضمان عدم حصول وباء جديد يساهم في عودة أميركا والعالم إلى "أسلوب حياة غير طبيعي"، فالعالم لا يزال محاطاً بكمية هائلة من عدم اليقين بسبب أي وباء جديد قد يظهر، والناس يدركون ذلك تماماً ويشعرون بهذه الهشاشة مع تناقل أي خبر يشير إلى ظهور فيروس جديد ما يسبب حالة من الهلع.
انهيار العقارات التجارية
أظهرت بيانات من جمعية المصرفيين للرهن العقاري الأميركية، أن هناك ديوناً بمليارات الدولارات ستُستحق هذا العام على مئات من المباني المكتبية في البلاد، والتي قد يجد ملاكها، صعوبة في إعادة تمويلها بأسعار الفائدة الحالية.
وأوضحت البيانات أن هناك قروضاً عقارية تجارية مرتبطة بالمكاتب بقيمة 117 مليار دولار تحتاج إما للسداد أو إعادة التمويل خلال 2024.
وتعد هذه أخباراً سيئة بالنسبة للاقتصاد الأميركي بأكمله، فالانهيار المحتمل للعقارات التجارية في ظل استقرار غالبية الشركات الأميركية على درجة معينة من العمل عن بعد، يمكن أن يشكل خطراً كبيراً على بعض الشركات العقارية التي سوف تنهار، ما سينعكس بشكل متاعب مالية على المصارف الصغيرة والمتوسطة التي قامت بتمويل هذه الشركات.
ويقول الرئيس التنفيذي لفيرست فايننشال ماركتس نديم السبع، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه مع بداية عام 2024، هناك علامات مشجعة على أن الاقتصاد الأميركي يبلي بلاءاً حسناً، ولكن هذا لا ينفي حقيقة وجود بعض المخاطر، التي تتربص باقتصاد بلاد العم سام وهي تتمثل بالنقاط التالية:
عودة الركود
بحسب الرئيس التنفيذي لفيرست فايننشال ماركتس نديم السبع، فإن هناك بعض الاقتصاديين يتكلمون عن احتمال عودة الركود، خاصة أن منحنى العائد على السندات الحكومية الأميركية لأجل عشر سنوات يقل عن منحنى العائد على السندات الحكومية لأجل سنتين، وغالباً ما تنظر الأسواق إلى "منحنى العائد المقلوب" أي عندما تكون للسندات الحكومية قصيرة الأجل عوائد أعلى من تلك طويلة الأجل على الرغم من تحمل مخاطر أقل، على أنها علامات على أن الركود وشيك.
تجدد التضخم
وشدد نديم السبع، على أنه رغم تراجع مستوى التضخم في الولايات المتحدة الأميركية إلى 3.1 بالمئة، فإن هذه النسبة لا تزال أعلى من مستهدف الاحتياطي الفيدرالي طويل المدى البالغ 2 بالمئة، وهذا يعني أنه لم يتم بعد تحقيق النصر في معركة التضخم بشكل حاسم بعد، وأن التقدم المستمر في خفضه غير مضمون، خصوصاً مع الحديث عن توجه المركزي الأميركي لخفض مستويات الفائدة خلال العام الحالي 2024، وهذا ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت خطوة حفض الفائدة ستتسبب بعودة التضخم لمسار الارتفاع، أم أنه سيكمل مساره الهابط، داعياً إلى ضرورة مراقبة أرقام التضخم في أميركا خلال 2024.
أداء الشركات
ويرى السبع، أن الشركات الأميركية تتمتع بأداء جيد حالياً، ولكن احتمال استمرار بقاء معدلات الفائدة مرتفعة خلال 2024 يمكن أن يرفع المخاطر الائتمانية عليها، ويرفع من حجم ديونها ما سيؤثر سلباً على أدائها وميزانياتها، ولذلك فإن نتائج أعمال الشركات ألأميركية خلال الربع الأول والثاني من 2024 ستكون موضع ترقب من قبل الأسواق.
عودة ترامب إلى البيت الأبيض
ويختم الرئيس التنفيذي لفيرست فايننشال ماركتس نديم السبع، حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، ستشهد انتخابات رئاسية في نهاية عام 2024، وحتى الآن فإن المرشحين الأكثر حظاً للتنافس، هما الرئيس الحالي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب، الذي يتمتع بفرصة جيدة لأن يعود من جديد للبيت الأبيض كرئيساً للولايات المتحدة، حيث إنه كلما ارتفعت حظوظ ترامب في العودة زاد الحديث عن إمكانية حدوث تغيير في السياسة النقدية الأميركية، دون استبعاد إمكانية حصول صدمة في حال تكرر السيناريو الذي حصل في انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2020، عندما رفض ترامب نتيجتها.