مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى مستويات قياسية، وتزايد الظواهر الجوية المتطرفة في جميع أنحاء العالم، بات "تغير المناخ" موضوعاً ساخناً يتطلب حلاً سريعاً، فاستمرار احترار الأرض، ستكون آثاره مدمرة على البيئة والصحة والاقتصاد، ما سيتجاوز بتبعاته الحدود القصوى لقدرة الإنسان على التكيف مع الوضع الجديد بحسب وصف الأمم المتحدة.
ودفع تعاظم المخاطر الناتجة عن تغير المناخ، الحكومات والهيئات والشركات في العالم، إلى تكثيف جهودها من أجل تصحيح المسار، وتسريع العمل لمعالجة هذه الأزمة الوجودية بالنسبة للإنسان، والتي يرجع سببها في المقام الأول وفقاً للأمم المتحدة، إلى عمليات حرق الفحم والوقود الأحفوري مثل النفط والغاز.
كلفة الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون
وفي إطار الجهود المبذولة لمساندة العمل المناخي وأنشطة صون الطبيعة في أسواق رأس المال، تحاول المصارف التجارية في العالم، ومن خلال الالتزام بمعايير ومبادئ "الممارسات البيئية والاجتماعية، وحوكمة الشركات" أو ما يعرف بـ "ESG"، أن تلعب دوراً كبيراً في مساعدة المجتمع، على إحداث تغييرات إيجابية لكوكب الأرض، خصوصاً أن المؤسسات المالية تتمتع بقدرات ونفوذ وموارد هائلة، تتيح لها دعم قضية المناخ، فالتحول نحو اقتصاد عالمي ذات انبعاثات كربونية منخفضة، عبر تنفيذ استثمارات خضراء، يستلزم بحد أدنى توفير ما بين 4 إلى 6 تريليونات دولار أميركي سنوياً، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة في عام 2022.
تسهيلات ائتمانية خلال مؤتمر الأطراف COP28
وفي السنوات الأخيرة، وجّهت العديد من المصارف التجارية الكبيرة في العالم، مبالغ ضخمة نحو الأنشطة البيئية والاجتماعية، حيث أعلنت بنوك منها مورغان ستانلي، وإتش إس بي سي هولدنجز، وغولدمان ساكس غروب، وجي بي مورغان، عن توفير خطط تمويل مستدامة لعام 2030، تتراوح قيمتها بين 750 مليار دولار و2.5 تريليون دولار وذلك لكل بنك على حدة.
ومسار دعم المصارف التجارية للاقتصاد الأخضر ومساهمتها في انقاذ العالم، عززتهما البنوك في دولة الإمارات العربية المتحدة التي أعلنت منذ أيام وخلال فعاليات "مؤتمر الأطراف الخاص بالمناخ" (COP28) المنعقد في دبي عن توفير تسهيلات ائتمانية بقيمة تصل إلى 270 مليار دولار حتى عام 2030 لدعم التمويل الأخضر، والمساهمة في جهود مواجهة أزمة المناخ، ما أعطى دفعة قوية للعمل المناخي على المستوى العالمي.
وتثير المبالغ الهائلة التي تخصصها البنوك التجارية للأنشطة البيئية، تساؤلات لدى البعض حول الأسباب التي تدفع الصناعة المصرفية للتغلغل في عالم البيئة والمناخ، وإعادة تركيز أولوياتها نحو كيفية إسهام استثماراتها وأموالها، في معالجة قضايا المناخ والتنوُّع البيولوجي على نطاق واسع في العالم.
ويقول الخبير في شؤون البيئة والاقتصاد الخضر مازن عبود، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن العمل المناخي يتطلب احتياجات تمويلية باهظة، فالبنية التحتية التي تحتاجها عملية تحويل مختلف الصناعات والقطاعات الإنتاجية العالمية الى "منخفضة الكربون"، تصل كلفتها إلى عشرات التريليونات من الدولارات، حيث يمكن الحصول على بعض من هذا التمويل، من خلال توجيه رأس المال الخاص للمشروعات المجدية، على صعيد حماية مستقبل البيئة والبشر، لافتاً إلى أن المصارف ومن خلال تبني مفهوم الحوكمة البيئية، تسعى لتقديم حوافز تمويلية ميسرة للاستثمارات الخضراء الفعالة على صعيد المنافع العامة العالمية، ما يساعد في خلق كوكب أكثر خضرة وعدالة.
الاحتباس الحراري يؤثر على الأسوق المالية
ويشرح عبود أن كلفة الانتقال الى الاقتصاد الأخضر هي كلفة كبيرة للغاية، وتتخطى مبلغ الـ 3 تريليونات دولار سنوياً ولمدة تتجاوز العشرين عاماً، إذ تكاد هذه الكلفة تكون من قبيل الخيال، خصوصاً في ظل ارتفاع أسعار القروض مع ارتفاع أسعار الفوائد عالمياً، وهذا ما يجعل الموضوع أكثر صعوبة، لافتاً إلى أن الاحتباس الحراري يعيد تصدير الأسواق، ويرفع المخاطر بدرجة كبيرة جداً، ويؤثر على الأسواق المالية من بوابة شركات التأمين أولاً، التي تتأثر كثيراً بالعوامل الطبيعية، فمع تزايد الفيضانات والحرائق تكاد أرباح هذه الشركات تتقلص إلى حدودها الدنيا، في حين بدأت الكثير من شركات التأمين تخسر مما يؤدي إلى خسارة كبيرة في الأسواق المالية.
ويؤكد عبود أن المبالغ المالية التي تخصصها المصارف لخطط التمويل المستدامة، تأتي في إطار أن كل جزء من أجزاء الاقتصاد يتأثَّر بتغير المناخ، من الزراعة إلى الصناعة وصولاً إلى التجارة، وفي حال لم يتم تدارك الوضع سريعاً قد يؤدي ذلك إلى تفاقم الخسائر وتعطل الأعمال، وبالتالي يجب على الاستثمارات التي تسهم في معالجة قضايا البيئة أن تتحرك سريعاً بما يضمن خلق مؤسسات صناعية أكثر استدامة، تمنع ارتطام الاقتصاد العالمي بتحديات المناخ في المستقبل.
غياب القواعد الموحّدة
وعن مشكلة غياب القواعد التنظيمية الموحّدة، وترك الحرية للبنوك في فرض معاييرها الخاصة، لتحديد ما يمكن اعتباره استثماراً مستداماً أو استثماراً في التحول المناخي، فيرى عبود أن تطبيق مبدأ الـ "ESG" أو "الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات" كانت انطلاقته من أوروبا وأميركا، ولا يزال العالم بحاجة إلى مزيد من الجهود، حتى يتم تنظيم معايير تطبيق هذا المفهوم، فهذا الأمر قد لا يحدث بين ليلة وضحاها، وهو قد يحتاج لمزيد من السنوات، ومن هنا يمكن تبرير بعض اللغط الحاصل بشأن عدم وجود معايير موحّدة في عالم المصارف، لتحديد ما يمكن اعتباره استثماراً مستداماً.
ما هو مبدأ الـ "ESG"؟
تم ذكر مبدأ الـ "ESG" أو "الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات"، لأول مرة في تقرير مبادئ الأمم المتحدة للاستثمار المسؤول لعام 2006، وهو مبدأ يقوم على ثلاث ركائز أساسية هي: البيئة، المجتمعية، الحوكمة.
ويوفر الـ "ESG" أفكاراً قابلة للتنفيذ حول أولويات الشركة، وقيمها، ورؤيتها لمستقبل الطاقة النظيفة، كحافز للتقدم وإحداث تغيير عالمي إيجابي.
وتعتبر معايير "ESG" إحدى أهم مبادرات الاستثمار المستدام، التي تساهم في تحويل المؤسسات إلى منشأة صديقة للبيئة وحريصة على الأثر المجتمعي، إضافة إلى حرصها على الحوكمة والشفافية والنزاهة.
المناخ قضية تنمية
من جهته يقول المحلل المالي محمد الحسن، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن تغير المناخ هو في الأساس قضية تنمية، فهو يهدد بتفاقم معدلات الفقر ويضر بالنمو الاقتصادي، وعند وضع جميع الأجزاء في مكانها الصحيح، نجد أن تحول الاقتصاد العالمي إلى اقتصاد منخفض الكربون، مرتبط بمعادلة الحصول على تمويل، وهذا يعني أن للمصارف دوراً كبيراً في بناء المدن المرنة ومنخفضة الانبعاثات الكربونية، ونتيجة لذلك تسعى المزيد من المصارف التجارية، إلى مواءمة مصالحها وممارساتها المالية مع اهتمامات المستثمرين وقادة الأعمال، الذين يبحثون بنشاط عن الالتزام بالعوامل البيئية والاجتماعية والحوكمة، وبقدرة أكبر على الوصول إلى رأس المال، وهذا تحديداً ما دفع عدداً متزايداً من المصارف التجارية، إلى تطوير خدمات مالية مرتبطة بالمناخ، ما سيسهم في خلق شركات أكثر استدامة من الناحية البيئية.
الانتقال من الوعود إلى التنفيذ
وبحسب الحسن فإن دمج المصارف للحوكمة البيئية في أعمالها وخدماتها، أصبح ضرورة عمل وحاجة ملحة، وهذه الخطوة سيكون لها أثرٌ بالغُ الأهمية، لناحية تعظيم الموارد المالية المتاحة للمؤسسات والمستثمرين، لتمويل مشاريع تخفيف آثار انبعاثات الكربون، والانتقال من مرحلة الوعود والتعهدات إلى مرحلة التنفيذ الفعلي، شرط أن يتم منح هذه التسهيلات في المقام الأول للشركات المهتمة فعلاً بحماية الناس والكوكب، متوقعاً أن تكون مساهمة البنوك كبيرة في التحول الأخضر في مجال الطاقة، انطلاقاً من إدراك دور الوقود الأحفوري في خلق غطاء من التلوث يحبس حرارة الشمس على الأرض، ويرفع درجات الحرارة العالمية.
وشدد الحسن على أن صناعة التمويل هي صناعة تنافسية، فدمج الاعتبارات البيئية والاجتماعية والحوكمة في المنتجات والخدمات المصرفية الاستثمارية، يسمح للمؤسسات المالية وشركات الخدمات المالية، بتمييز نفسها وريادة السوق، في مجال التمويل المستدام المتنامي، في حين أن تجاهل العوامل البيئية يؤدي إلى خلق مخاطر مالية كبيرة، ستكون البنوك أكبر المتضررين منها في حال لم تعمل من الآن على دعم التحول نحو الاقتصاد الأخضر، مشدداً على ضرورة أن تكون الخطوة المستقبلية، إقرار المزيد من القواعد التنظيمية لدور المصارف التجارية في تمويل التحول الأخضر، وذلك بما يضمن التزام جميع البنوك بتعهداتها في هذا المجال.