تُواجه المملكة المتحدة ضغوطات اقتصادية واسعة، بما في ذلك معدلات التضخم، والتي تدفع البريطانيين إلى مواجهة أعباء ارتفاع تكلفة المعيشة، وفي وقت لا تبدو هنالك انفراجة محتملة على المدى القريب على الأقل حتى نهاية هذا العام وربما العام المقبل أيضاً.
تعاني لندن من مزيج من الارتدادات السلبية لعديد من التطورات؛ سواء المحلية والإقليمية والدولية، ومن بينها تطورات عانت منها اقتصادات العالم على حد سواء (وباء كورونا والحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة، وأخيراً المخاوف إزاء التوترات في الشرق الأوسط)، علاوة على تطورات خاصة بالحالة البريطانية (الخروج من الاتحاد الأوروبي "البريكست" وتأثيرات ذلك الاقتصادية).
وفيما بدأ بنك إنجلترا مبكراً التعامل مع تلك التحديات التي ترفع الضغوطات التضخمية، وذلك من خلال قيامه برفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم والسيطرة على الأسعار، إلا أن المعدلات الحالية للتضخم، وإن شهدت تباطؤاً، إلا أنها لا تزال بعيدة عن المستهدف عند 2 بالمئة.
والأسبوع الماضي، أبقى بنك إنجلترا أسعار الفائدة الرئيسية دون تغيير، للمرة الثانية على التوالي، وذلك بعد أن رفعها 14 مرة منذ بدء سياسة التشديد النقدي في ديسمبر 2021، من أجل كبح التضخم. كما خفض البنك توقعاته للنمو الاقتصادي في بريطانيا، وقال إن التضخم يمكن أن يظل مرتفعا لفترة أطول.
وذكر محافظ بنك إنجلترا، أندري بايلي، أنه "من المبكر للغاية" التفكير في خفض معدلات الفائدة (..) أبقينا على معدلات الفائدة دون تغيير الشهر الجاري، ولكننا سوف نتابع الأمور عن كثب لتحديد ما إذا كانت زيادة المعدلات مطلوبة".
معدلات التضخم
يقول كبير الاقتصاديين في شركة ACY المالية، الدكتور نضال الشعار، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- إن ما قام به بنك إنجلترا لا يختلف عن ما قام به الفيدرالي الأميركي والمركزي الأوروبي.
- الكل رأى في تثبيت أسعار الفائدة كسياسة نقدية، بسبب قناعتهم بأن معدلات التضخم قد بدأت في الانخفاض، وأن الاقتصاد في بعض الدول بدأ في التباطؤ، وحجم الطلب الكلي بدأ في التراجع، وهذا يبشر بانخفاض في معدلات التضخم.
- عملية تثبيت أسعار الفائدة في المملكة المتحدة، جاءت بعد 14 عملية رفع في أسعار الفائدة، وأصبحت في حدود 5.25 بالمئة، ومع ذلك لا يزال التضخم الأساسي مرتفعاً، وهو بحدود 6.7 بالمئة، وبما أثر على معدلات الإقراض والاقتراض وحركة المنازل بشكل خاص والسلع المعمرة وسلوك المستهلك من حيث استخدامه للمصارف للاقتراض.
ويضيف: "لكن وضع المملكة المتحدة مختلف عموماً (بالنظر إلى حجم التحديات التي تواجه الاقتصاد)"، لافتاً إلى أن "الشيء المختلف أيضاً الذي جاء في قرار البنك هو "التصويت" ذلك أن ستة أعضاء كانوا مع التثبيت وثلاثة ضده.
ويشير إلى تصريحات حاكم بنك انجلترا، أندرو بيلي، والتي أشار خلالها إلى أنه "إذا كانت هنالك ضرورة لرفع الفائدة في المستقبل فسوف نقوم بذلك، ولكن إذا لم تكن هناك ضرورة فإننا لن نقوم بخفض الفائدة"، واصفاً تلك التصريحات بأنها "جملة ضبابية.. وقد تكون مثل تلك التعبيرات نوعاً من أنواع التحوط يقوم به السياسيون والاقتصاديون (..)".
وذكر تقرير الصحيفة البريطانية المشار إليه في هذا السياق، أن السبب وراء لهجة بيلي المتشددة هو أن البنك يتخذ نهجًا خاليًا من المخاطرة تجاه التضخم (..)، وبعد أن واجه انتقادات لأنه ترك رفع أسعار الفائدة بعد فوات الأوان في مواجهة الضغوط التضخمية المتصاعدة، يخاطر البنك الآن بدفع الاقتصاد إلى الركود من خلال ترك أسعار الفائدة مرتفعة للغاية لفترة أطول مما ينبغي.. وبدأت الشركات ــ التي تواجه مزيجاً من ارتفاع أسعار الاقتراض وتراجع الطلب ــ تتساءل متى يمكنها أن تتوقع تخفيف السياسة النقدية.
وبالعودة لتصريحات الشعار، فإنه يتابع قائلاً: "أيضاً الملفت للنظر هو التقرير الصادر عن لجنة السياسات النقدية، والذي أشار إلى الوضع الجيوسياسي الحالي في الشرق الأوسط والحرب بين غزة وإسرائيل.. كان هناك تصريح واضح ونوع من الحذر والخوف من أن يؤثر ذلك على أسعار النفط وبالتالي الدخول في دورة تضخم أخرى، وهذا ستكون نتائجه مزيد من رفع الفائدة.. وهي عبارة تحوطية أيضاً".
ويختتم حديثه قائلاً: "إذا تمت مقارنة تلك التصريحات مع الفيدرالي الأميركي، نرى أن الأخير لم يشر إلى الصراع في الشرق الأوسط كعامل معهم من عوامل إدارة أسعار الفائدة.. هذه الاختلافات مهم ذكرها، والمركزي البريطاني دائماً مشهور بعمق أفكاره وبتوقعاته المستقبلية.. بنك إنجلترا اعترف وبصراحة بأن الاقتصاد متباطئ وأن الوضع ليس بأحسن أحواله وأن هذا سيستمر طيلة العام 2024 ولن يبدأ التحسن إلا مع بدايات 2025".
ووفق تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية، فإن أفضل تقدير لبنك إنجلترا - بناءً على توقعات ببقاء أسعار الفائدة دون تغيير عند 5.25 بالمئة حتى الربع الثالث من العام 2024 - هو أن الاقتصاد لن يُظهر أي نمو على الإطلاق في العام 2024.
وهناك احتمال أن يكون الأمر أسوأ من ذلك، مع انزلاق الاقتصاد إلى الركود. ومن المتوقع أن ترتفع البطالة بشكل مطرد إلى ما يزيد قليلا عن 5 بالمئة بحلول بداية العام 2025.
التباطؤ الاقتصادي
وإلى ذلك، يشير الباحث في الشؤون السياسية والاقتصادية، حميد الكفائي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن:
- معدلات التضخم في المملكة المتحدة لا تزال مرتفعة، وبالنظر إلى أن هدف الحكومة أن يكون التضخم في حدود الـ 2 بالمئة.
- التوقعات تشير إلى أن الاقتصاد البريطاني لن ينمو خلال السنة المقبلة.
- ارتفعت أقساط القروض العقارية كثيراً.. ولكن لا ننسى أن كثيراً من البريطانيين والدول الغربية عموماً استفادوا من ارتفاع أسعار الفائدة، بسبب مردودات مدخراتهم التي تراكمت خلال فترة الإغلاق.
- هذا الأمر أخر بشكل أو بآخر من انخفاض وتيرة معدل التضخم، لأن المدخرين اعتمدوا على مدخراتهم، ولم يتأثروا كثيراً بارتفاع أسعار الفائدة.
- لذلك يُتوقع أنه في العام المقبل سوف يخفض معدل التضخم إلى 3 بالمئة (أي دون هدف الحكومة التي تريد معدل التضخم في حدود 2 بالمئة).
- لكن النمو الاقتصادي سيكون صفراً.. المقصود من رفع أسعار الفائدة إبطاء الاقتصاد، ولكن في الوقت نفسه الحكومة تريد للاقتصاد أن ينمو، ولكن النمو الاقتصاد يعني بقاء معدل التضخم مرتفعاً.
- التوقعات تشير إلى أن أسعار الفائدة سوف تبقى كما هي الآن.. ربما ستنخفض أواخر العام لأن هناك انتخابات والحكومة الحالية تريد أن تحقق إنجازاً قبيل الانتخابات؛ كي تتمكن من تسويق نفسها في الانتخابات.
لكنه يشير إلى أن هذا الهدف قد لا يتحقق "لأن بنك إنجلترا مستقل، ولا تتحكم به الحكومة"، مشيراً إلى أن الحكومة تستطيع أن تتحكم في السياساة الاقتصادية والضريبية من أجل تهيئة الظروف فقط.
ويعتقد الكفائي بأن أسعار الفائدة سوف تبقى مرتفعة خلال العام المقبل، ربما ستنخفض في نهاية العام أو في مطلع العام 2025.
ويردف: "هناك نقطة يتعين الانتباه إليها، وهي أن مدخرات المستهلكين سوف تتقلص أو تنفد بنهاية العام المقبل أو في منتصف 2025، وهذا يعني أن أسعار الفائدة المرتفعة سوف تؤثر على قراراتهم الاستهلاكية، أي أنهم سوف يقلصون من استهلاكهم، وهذا هو المطلوب".
العوامل المتحكمة في سياسات بنك إنجلترا
وإلى ذلك، يلفت الخبير الاقتصادي، محمد يسلم الفيلالي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أنه: "في خطوة متوقعة، صوتت لجنة السياسة النقدية لبنك إنجلترا للحفاظ على سعر الفائدة عند 5.25 بالمئة أي أعلى مستوى في 15 عاماً.. بينما صوت 3 لرفع المعدل إلى 5.5 بالمئة.. وهكذا ترك بنك إنجلترا تكاليف الاقتراض دون مساس للمرة الثانية على التوالي، وذلك على غرار صناع السياسات النقدية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا".
وأضاف: أرجع البنك هذه الخطوة إلى عوامل عديدة من أهمها:
- القرار الذي اتخذه الفيدرالي الأميركي، و كذلك البنك المركزي الأوروبي.
- عدم تغير المؤشرات الرئيسية منذ آخر قرار في سبتمبر.
ويضيف: في اعتقادي، فإنه على الرغم من أن التضخم في المملكة المتحدة قد انخفض بإطراد منذ أن بلغ ذروته عند حوالي 11 بالمئة في أكتوبر من العام الماضي، إلا أن التضخم ظل دون تغيير عند 6.7 بالمئة منذ سبتمبر، وهو أعلى بكثير من:
- الهدف على المدى المتوسط و هو 2 بالمئة.
- التضخم في الولايات المتحدة البالغ 3.7 بالمئة.
- التضخم في منطقة اليورو الذي يقارب 2.9 بالمئة.
وتباطأ التضخم في أسعار المواد الاستهلاكية في منطقة اليورو إلى 2.9 بالمئة، وفق ما أظهرت بيانات "يوروستات" لشهر أكتوبر، وهو أقل معدل منذ يوليو 2021 عندما وصل إلى 2.2 بالمئة.
ويعد التضخم أقل من نسبة 4.3 بالمئة بالمئة التي تم تسجيلها في سبتمبر وأقل من توقعات المحللين الذين توقعوا بأن يبقى التضخم أعلى من 3 بالمئة.
ويستطرد الفيلالي بأن بنك إنجلترا سيجتمع في 14 ديسمبر 2023 ولكنني أعتقد بأن الحاجة إلى رفع أسعار الفائدة ستتأثر بعاملين أساسيين:
- قرار الفيدرالي؛ ذلك أن أي رفع في نسبة الفائدة الأميركية سيجعل بنك إنجلترا يضطر إلى رفع الفائدة وذلك لأسباب تعود الى حركة رأس المال في الأسواق المالية.
- التطورات الجيوسياسية و آثارها على أسعار الطاقة.
أما في ما يخص دورة التشديد النقدي فأهداف البنك المعلنة لاتزال ثابتة، أي تقليص الميزانية بمقدار 100 مليار جنيه إسترليني.
ويختتم الخبير الاقتصادي حديثه بقوله: "إن مواصلة هذه السياسة تعتريها عوامل عديدة وكذلك سرعة تدهور المؤشرات الاقتصادية الأساسية، والتغيرات الجيوسياسية والجيواقتصادية التي لا يتحكم المركزي البريطاني فيها".