سيطر هدوءٌ نسبيٌ على تفاعل الأسواق مع العاصفة الجيوسياسية التي انطلقت شرارتها الأولى يوم السابع من شهر أكتوبر الجاري ولاتزال نيرانها تتصاعد وسط سيناريوهات أكثر خطورة، في ضوء تفاقم التوترات بين حركة حماس الفلسطينية وإسرائيل.
شهدت الأسواق خلال تلك الفترة تذبذبات واضحة، وفيما يتعلق بالأصول، لم ترتق تلك التذبذبات إلى اتجاه هبوطي عنيف أو حاد بشكل مستمر للأسهم على سبيل المثال، والتي تلقت "الصدمة الأولى" في عديد من أسواق المنطقة ثم عاودت الارتداد بصور متباينة ونسبية.
كما عبّرت أسعار النفط عن تلك الحالة كذلك ما بين ارتفاعات وانخفاضات، مرهونة بالسيناريوهات المرتقبة، بدءاً من سيناريو الاجتياح البري من جانب إسرائيل لقطاع غزة، ووصولاً للسيناريو الأكثر خطورة والمرتبط بتوسع رقعة التصعيد بانضمام أطراف أخرى، وبما يشكله ذلك من تهديدات واسعة.
وبشكل عملي، أبدت الأسواق ميلاً واضحاً إلى تقييمات أكثر توازناً للمخاطر الجيوسياسية، وهو ما عبر عنه رئيس الأعمال الدولية لشركة Rockefeller Capital Management روتشر شارما، في عموده بصحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، والذي أشار خلاله إلى أن "الهجمات التي وقعت هذا الشهر على إسرائيل أثارت مخاوف من نشوب صراع أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط، بل وحتى من نشوب حرب عالمية ثالثة"، فيما "تصف الأصوات الجادة هذا التوقيت بأنه أخطر وقت في الذاكرة الحية، مع التهديدات التي تلوح في الأفق من روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران".. لكنه قال في الوقت نفسه:
- إن الأسواق المالية كانت في معظمها ضعيفة من ناحية "رد الفعل على الحريق الذي يختمر في غزة".
- لم يتزحزح مؤشر ستاندرد آند بورز 500 القياسي إلا بالكاد منذ الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر.
- حتى أسواق الأوراق المالية الأقرب إلى منطقة المعركة، من المملكة العربية السعودية إلى مصر ودول الخليج، شهدت تراجعات معتدلة.
- لم تكن هناك اندفاعة نحو الأمان في أسواق السندات، حيث كانت الأسعار آخذة في الانخفاض، ولم تكن هناك دراماتيكية كبيرة في أسعار النفط أيضاً.
- يبدو الأمر كما لو أن الأسواق تعتقد بأن الصراع لن يرقى إلى مستوى "أسوأ المخاوف"، كما هو الحال غالباً في الأزمات الجيوسياسية.
ويعود الكاتب بالذاكرة عند رد فعل الأسواق على عديد من الأزمات، من بينها هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة وكيف أن مؤشر ستاندرد آند بورز 500 انخفض 12 بالمئة (..) لكن تلك المرحلة مرت بسرعة (..). كما يستشهد في الوقت نفسه بالأزمات الجيوسياسية التي عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية (ومنها 16 حادثاً في منطقة الشرق الأوسط) وكيف تأثر المؤشر المذكور منخفضاً في المتوسط بـ 4 بالمئة، لكنه يتعافى تماماً في 33 يوماً.
ويضيف إنه "بعد عمليات البيع المتسارعة الأولية، عادة ما تتعافى السوق"، مشدداً على أن "عمليات البيع المكثفة في السوق بشأن الصراع الأخير في قطاع غزة أقل إثارة للدهشة حتى الآن مما كانت عليه بشكل عام.. بينما القلق الأكبر هو ارتفاع أسعار الفائدة".
الصدمة الأولى
من جانبها، تقول خبيرة أسواق المال، حنان رمسيس، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الأسواق تفاعلت بشكل مباشر مع الأحداث منذ السابع من شهر أكتوبر الجاري، و"أخذت الصدمة الأولى" للتصعيد الحادث في غزة حينها ومع تصاعد القصف الإسرائيلي، ثم ما لبثت وعوضت الانخفاضات القوية التي منيت بها تدريجياً، وبدأت في الارتفاع في الجلسات التالية بعد جلستين تقريباً.
وتضيف: "بدأت الأسواق في التفاعل مع الأحداث الداخلية والتطورات الاقتصادية والمؤشرات المختلفة بشكل طبيعي، لا سيما وأنه قد بدا أن الأزمة الحالية سوف تطول، وبالتالي بدأ التعامل مع الأزمة كما يتم التعامل مع الحرب في أوكرانيا حالياً وتأثيراتها".
وتوضح خبيرة أسواق المال أنه رغم تجاوز الصدمة الأولى إلا أن أداء الأسواق بشكل عام يختلف من سوق لأخرى في ظل تلك الأحداث؛ على النحو التالي:
- الأسواق التي تشهد عدم استقرار لسعر الصرف وعملتها مرشحة لمزيد من الانخفاض شهدت ضخ استثمارات جديدة في الأسواق (مع لجوء مستثمرين للأصول والملاذات الآمنة لحفظ قيمة العملة).
- بينما الأسواق المستقرة والتي ترتبط عملتها بالبترودولار تحركت عرضياً، وفي بعض الأحيان انخفضت، لا سيما وأنها أيضاً أكثر عرضة لتأثيرات القرارات المرتبطة بالفيدرالي الأميركي الذي لن يتراجع قريباً عن سياساته النقدية (المتشددة) وفي ظل أزمة سقف الدين الحكومي.
وتشير في الوقت نفسه إلى أن المتعاملين في سياق هذه الأزمة تحركوا على أكثر من صعيد، بما في ذلك أسواق الأسهم وحتى العقود الآجلة والعملات المشفرة، جنباً إلى جنب والملاذات الآمنة كالذهب.
وبالعودة للمقال المنشور في الصحيفة البريطانية، فإنه أشار إلى أن:
- العقل الجماعي للسوق يدرك المخاطر الجيوسياسية باعتبارها ثابتاً تاريخياً، ويضع إطاراً للحظات مشحونة في هذا السياق.
- فهم الأزمات الجيوسياسية باعتبارها ثابتاً تاريخياً يعمل على استقرار الأسواق في العاصفة.
- لدى الأفراد أسباب لإضفاء طابع رومانسي على الماضي بينما يشعرون بالقلق بشأن المستقبل.
- ومع ذلك، يبدو أن العقل الجماعي للسوق يقوم في كثير من الأحيان بإجراء تقييمات أكثر توازناً وموضوعية للتهديدات.
- الرسالة التي تبعث بها الأسواق الآن هي أن أسوأ مخاوفنا لن تتحقق.
ويتساءل: "هل الشرق الأوسط أصبح الآن أكثر خطورة مما كان عليه خلال أي من الحرائق الكبرى التي اندلعت هناك منذ الحرب العالمية الثانية؟ وأن روسيا أصبحت قوة أكثر خطورة بعد خسارتها نصف قدرتها القتالية في أوكرانيا؟ وأن الصين تشكل تهديداً أعظم اليوم، على الرغم من الضعف المطرد لاقتصادها؟"، قبل أن يجيب قائلاً: "إن مجموع هذه التهديدات غير مؤكد إلى حد كبير وقابل للنقاش".
التصعيد المحتمل
لكن أستاذ الاقتصاد والمالية العامة بكلية الدراسات القانونية والمعاملات الدولية بجامعة فاروس، الدكتور أحمد العجمي، يشير في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن مدى وحجم تأثر الأسواق يرتبط بشكل أساسي بالسيناريوهات التالية لتطور الأزمة الراهنة (في إشارة للسيناريوهات المتعلقة باتساع رقعة التوترات والتحول إلى أزمة إقليمية أوسع بما لذلك من تداعيات وخيمة على المنطقة والعالم).
ويشير العجمي إلى أن إسرائيل تكبدت خسائر اقتصادية واسعة جراء هذه الأزمة، وقد حدث ذلك بينما العمليات لا تزال محدودة في نطاقاتها المعروفة ولم تتحول إلى أزمة إقليمية أوسع من شأنها التسبب في هزّات عنيفة للاقتصاد، وللأسواق عموماً، لا سيما الدول المحيطة.
ويشدد على أن توسّع الأزمة على النحو المذكور (..) يسفر عن تهديدات اقتصادية بالغة، بدءاً من تهديدات سلاسل الإمداد وأسعار النفط وغير ذلك، موضحاً أن حجم تلك التأثيرات المحتملة يرتبط بمدى تأثير الدولة التي تنخرط في هذه الأزمة ضمن أي صراع إقليمي، في السياسة والاقتصاد الدوليين، فمع دخول أطراف بعينها تصبح هنالك مشكلة أعمق وأوسع.
ويشدد أستاذ الاقتصاد والمالية العامة بكلية الدراسات القانونية والمعاملات الدولية بجامعة فاروس، في السياق نفسه على أن المستثمرين يتعاملون بشكل من "الحذر" إزاء تلك التطورات الجيوسياسية، انتظاراً لما سوف تسفر عنه تلك التطورات من سيناريوهات، مشيراً إلى أنه محرد التلويح من جانب بعض الدول بمواقف بعينها فإن ذلك يشكل تأثيراً مباشراً على ارتفاع أسعار النفط والذهب، وتراجع الدولار.
ويشار إلى أن ثمة ثمة ترجيحات بأن يتسبب اتساع رقعة الصراع في ارتفاع التضخم وبالتالي تسارع وتيرة عمليات رفع أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم، طبقاً لما ذكره في وقت سابق كبير خبراء الاقتصاد الدولي في مجموعة إيكونوميك أوتلوك في برينستون بولاية نيوجيرسي،برنارد بومول.
لكنه أشار إلى أن الولايات المتحدة قد تكون الاستثناء من هذا السيناريو لأن المستثمرين الأجانب سيضخون رؤوس أموالهم فيما يعتبرونه ملاذا آمنا أثناء الصراعات العالمية.